شعار قسم مدونات

المحنة العثمانية الكبرى

Turkish supporters of the ruling AKP party wave Turkish flags before a rally marking the 563rd anniversary of the conquest of Istanbul by the Ottomans, in Istanbul, Turkey 29 May 2016. The capital of the Byzantine Empire, known then as Constantinople, fell to Ottoman Sultan Mehmed II on 29 May 1453.
لا أعرف من أين أبدأ! ولكن من المؤكد أننا ضمن دائرة شديدة الاتساع، بها عدد لا يحصى من النقاط، سنمضى قُدُمًا من أحدها، ونبقى نسير حتى نصل إليها مرة أخرى، لنقفل هذه الدائرة ونتعرف على هذه المحنة العويصة، والتي طالما حيرت العديد من المفكرين والكتّاب؛ في تحليلها وفي تكرّرها!

شارك في حروب "السفر برلك"، دحر العدو الذي تربص دومًا بمصالح المنطقة منذ قرون، قاتل على نهر الطونا، ضرب الغزاة في مضيق البسفور، لم يستكن حتى في صحراء الطور، ولم يرفض الأمر الذي يمليه عليه ضميره قبل قائده! حتى ولو قيل له اذهب لمنع العدا في باب المندب، فقد كان قائدًا لنفسه قبل أن يكون قائدًا لسريّته!
 

طوله يضرب المترين، له لحية ناعمة كستنائية، يديه كالصوان، عيونه زرقاءُ غائرة، على صدره الكثير من الأوسمة، يضع القلباق الأسود في المراسم العسكرية، أو يلبس الطربوش القاني حين مراسم التشريفات التي يرصعه الخليفة فيها النياشين والفرمانات شهادة ببطولته، يعتمر قبعة الحرب الزيتية عندما يذهب للجبهة بنيّة عدم الرجعة إلى الحياة الفانية.
 

شارك في حروب "السفر برلك"، دحر العدو الذي تربص دومًا بمصالح المنطقة منذ قرون، قاتل على نهر الطونا، ضرب الغزاة في مضيق البسفور، لم يستكن حتى في صحراء الطور.

فقط بعد بضع سنوات تغير كلُّ شيء، استحالت الحقيقة إلى خيال، وما عاد يعرف ماذا يحصل، أصبح مجرمًا ملاحقًا من قبل السلطات الجديدة، معه مخزون كبير من البارود، ومعاشات العسكر المدموغة بالطغراء التي بلغت من العمر قرون أو يزيدون، باع ما يستطيع من ملابسه، وحدثته نفسه عن الإتـجار بالمعاشات، فقال اخرسي يا نفسي اللعينة! لقد أخذتك للموت ألفَ ألف مرة، كيف تسولين لي أن ألمس أمانات الجند! بل هي أمانات الخلافة!
 

صدئت المدافع، وتآكلت الرصاصات، وبردت مخازن البارود، ووضعت الحرب أوزارها، وكان من نتائجها أن هوى الهلال والنجمة المخضبان بدماء الشهداء عن بقاع رحيبة، وأراض فسيحة، وكان من يحمل وسام البطولة، ونيشان الشجاعة على رأس المطلوبين بتهمة الخيانة الزائفة، التي سطرتها أياد المحتل، وأنامل المستعمر السوداء.
 

بدأت العسكر في البحث عنه، وعن أمثاله، ووسموهم بأكابر مجرمي الحرب! عن أي تهمة نتحدث؟! نتحدث عن تهمة قتل الجنود الإنكليزية، وتدويخ استخبارات جدة القارة الأوروبية، فيكتوريا البريطانية، والذين لم يشبعوا من العبث بمقادير هذه الأمة! اختفى لسنوات طوال في أكناف الأراضي المقدسة، وكان يحدث نفسه كالمجنون كل يوم، ما الذي حصل؟ أمحا من الأرض الخلافة ماح! كان يسبّح بهذا الشطر ليل نهار دون أن يعرف ما الذي يجري في العالم الخارجي، إلا أن يسترق السمع من مقهى ما، أو من صحف رميت على الأرض بعد انقضاء يومها.
 

أكلت السنوات من جسده، وتوفى مسنًّا، وما عاد يتساءل عمّا حصل، بل لا يقدر أصلًا، فلقد تغيرت الحياة، وأصبح أهل الديار ليس هم أهلها، وما عادت الأحوال هي نفسها، ولقد ترك في نسله بعضًا من نفسه، مرت العقود، وجاء نسل جديد يوازي أهل الزمان الذين ما عادوا يهتمون لما قد حصل! ونسُوا ما كان يؤرق فكره! فلقد تم صياغة أمجاد "جديدة"، على دهر لم يبلغ من العمر سوى بضعة عقود.
 

يا تُرى كم هو عدد هذه القصص الخالدة التي رُسمت من هذا التاريخ المجيد، والتي انقرضت بسبب الطمع والحرص الشديد على الموقع والمال المديد، أو نقول: إنها تمت عن جهالة وهزالة فكر؟! لا يُهِم التعليل بعدما حصل ما حصل، فإن الواقع تغيّر، ولكن لا يمكن نسيان ما قد أفل في كل ما قد حل، وكذا لا يجب استثماره في التفريق بين المؤمنين، وصب المزيد من النقاط لصالح العدو.
 

إنّ الطمع الذي مسح عظمة قرون تليدة، لا يمكن له أن يزيل الآثار الخالدة التي تحوم حولنا كأسراب الحمائم السامية. إن أحجار سنان السنية تُنبئنا بسر هذه القوة، وتلك المآذن العليّة تقرع آذاننا في اليوم والليلة، وتضرب لنا الأرض الصامدة أمثال البهاء المتجلي في عزة النفس التي وقفت أمام شياطين الجن والإنس.
 

كانوا يحدثونا عن أمجاد حديثة الولادة، بل وربما أنها أمجاد مصابة بالعور والبتر، والكثير من العاهات المستديمة، ولكننا لم نكترث لها كما يُراد لها! هنالك الكثير من الغبش، احتفالات ببطولات لم نعهدها، سمعنا غير الذي نرى، ونرى ما لم نعتد عليه في البيت، تداخلت الأفكار، وتخالطت الأذهان، ويكأننا نعيش بنفس ذلك التِّيْه الذي عاش به الأجداد الذين عاصروا محنتهم الأولى. من كثرة الاحتفالات، لم نعد نعرفْ أيَّهَا الحقيقي، تشتت يسبقه وهم، وأصوات أعلى من أن تكون واقعًا، أو أنها ليست كما توصف!
 

بدأت العسكر في البحث عنه، وعن أمثاله، ووسموهم بأكابر مجرمي الحرب! عن أي تهمة نتحدث؟! نتحدث عن تهمة قتل الجنود الإنكليزية، وتدويخ استخبارات جدة القارة الأوروبية، فيكتوريا البريطانية.

إن كل لحظات اليأس التي نشعر بها، لا نقضي عليها سوى بتذكر ما فعله الأجداد، نقول هم كانوا على جبهة الموت لأجل العدل، لأجل الأمة، ونحن نقول إننا في جبهات السياسة، على خطاهم سائرون، لا يردعنا سوى القدر، الذي ننتقل منه وإليه، نعم هذه هي "العصامية العظامية"!
 

قد لا يستطيع لساني وصف الشعور الذي يختلجني، بل من المحال أن يصف لساني شعورًا يوازي ما يبوح لي به من أسرار ذلك السيف العتيق الذي ورثناه عن جدنا، والذي شارك بالمعارك الخالدة، والتي لا يمكن أن تكون إلا في مستوى الغزوات الأولى التي فتح بها الإسلام العالم من خلال طلائعه المعظّمة، هذا السلاح الخالد يجب أنْ يحقن أنفسنا بجرعات أبدية من الأمل، حتى نسموَ بسياسيتنا لخدمة الملة والأمة.
 

ليس الظلم في أن نُخلق في دولة ما قد نحاول إعطاءها بقدْر ما تعطينا، إنما الأسى والألم في خروجك من موطنك، ومسقط رأس أجدادك خائنًا رجيمًا، وقد ضحيت لأجلها السنين الطوال، وأفنيت من أجلها البنين والمال، وكنت على رأس كتائب السياسة والاستقلال! وكذا الأدهى والأمرّ أن تُعامل كخائن من قبل مستعمر لئيم جاثم على أرض لم تكن لتدنس من أمثاله أبدًا… 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.