شعار قسم مدونات

رحلتي مع القرآن

مدونات - القرآن

"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف 103-104). "يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا" (الأحزاب 66-67). عوّدونا، منذ ظهرنا على هذه الحياة، أن نتعامل مع القرآن كما لو أنّه تعاويذَ سحريةٍ تجلب لنا الخير والبركة وتبعد عنا الشياطين والأرواح الشريرة، فمنّا من يقرأُ القرآن ويستمع إليه في المآتِم والذكريات الحزينة، استجلابًا للرضا والمغفرة، ودفعًا للغضب والعذاب، ومنّا من يكتفى بالاستماعِ إلى بضع آيات منه في التلفاز كلّ صباح من أجل الشعور بـ "تفاؤلٍ كاذِب"، ومنّا من توقّف على ترديد فاتحتِه ومعوذَتَيْهِ في الصلاة، دون أن تطأهُ شفتاهُ أو يداهُ فيما عدا ذلك.

ومنّا من تعدّى ذلك كله بأن سهر الليل والنهار يلتمس حفظه واستذكار آياته وسوره، وجميعهم يشتركون في أنّهم لا يعرفون القرآن، جميعهم لا يفكّر، لا يتعقّل، لا يتدبّر! وقد كنتُ – لا أعرفُ هل لحسن الحظّ أم لسوئِه – من الصنف الأخير، كنتُ أحفظ الكثير والكثير، وكلّما نسيتُ أرجع فأحفظ ثانية وأقرأُ مرارًا وتِكرارًا، كنتُ أظنّ أنني بهذا سوف أدخل الجنّة "حَدْفا"، كما يقولون، وبأنني، سأكون أفضل المؤمنين، وسأعلو في درجات الجنّة حتى ألمس السّحاب براحة يدَيّ!
 

لم أكن أعرفُ على وجه التحديد لمَ أذهب إلى المسجد ولمَ أحفظ، بل كنتُ أحفظ فقط، وأعلم الآن أنني كنتُ أفعل ذلك من أجل مكانة اجتماعية أنالها بعد تحقيق ذلك الحلم العسير.

لقد وصل بي الأمرُ أن أحفظ نصف جزءٍ في اليوم، هذا يعادل 20 صفحة، وكنتُ أراجِع جزأَيْن في اليوم، ما يعادل الثمانين صفحة.. أجل، لم أكن أعدو عن المركز الثالث في أية مسابقة قرآنية أدخلها، كانت لديّ قدرة كبيرة على الحفظ، أحفظ الصفحة الواحدة في بضع دقائق، ولو أنّ مانعًا منعني من الاستمرار على الحفظ ودفعني إلى الانقطاع في الكثير من الأوقات -لا أريد ذكره هنا-، لحفظتُ القرآن قبل أن أبلغ العاشرة بشيء كثير.

حسنًا، أعتَرِف.. لقد كنتُ ببغاءً يتلو بغير عِلم ويحفظ بدون فَهم، ولعلّ ما شجّعني على ذلك: أن مجتمعي شجّعني عليه! فأبي وعدني، مُذ كنتُ صغيرًا، بالعِجْلِ الذي سيَذبَحه عندما أختِمُ القرآن، والذي سيأكل منهُ القانِعُ والمعْتَرّ، والغنيَّ والفقير، من الأقارب وجيران البيت، كما وعدني بأنه سيعلِق الأنوار المتلألئة من أوّل الشارِع إلى آخره لكي يعرف الناس أنّ ابنه قد "خَتَمَ" القرآن، وبأنني، بذلك، "سوف أُلبِسَه تاج الوقار في الآخرة"!
 

لا أذكرُ بالتحديد السنة التي بدأتُ فيها بحفظ كتاب الله، أظنّ أنني بدأت بالحفظ منذ كنتُ في الأشهر الأولى وأنا أسمع أبي يُردد الآيات والسور، أو يأتي القرآن إلى مسامعي من الراديو، إلى أن بدأتُ أحفظ فعليًا بعد بلوغي العام أو العامَين، وكان الشيخ يأتي إلى إخواني البالغين فبدأتُ بالحفظ معه فترة ليست بالقصيرة. استمررتُ بالحفظ والانقطاع فترة من الزمن إلى أن بلغتُ العاشرة، ومنذ ذلك الحين بقيتُ أحفظ لأربع سنوات متتالية، أو يزيد، بلا توقّف، وكنتُ أقاسي الصعاب وأنا أذهب إلى المسجد الذي يبعد عن بيتنا مسافة كيلو أو يزيد، ثلاثة أيام في الأسبوع، أو كل يوم، لكي أحفظ القرآن.

لقد مررتُ على شيوخ بعدد رأسي، لم أجد واحدًا منهم إلا ويخوّفني إما بالضرب، وإما بالشكوى لأبي، وإما بفوات الجنّة أو بنار الآخر.. وكنتُ أرى زملائي يُضرَبون على أيديهم وأرجلهم ويتلقّون أعظم الإهانات والشتائم لأنهم ضعيفي الحفظ، أو لأنّ أنفسهم لا تميل إلى ذلك، أو لأنّهم يحفظون لأغراض لا تعدو أن تكون دنيوية تافهة. لم أكن أعرفُ على وجه التحديد لمَ أذهب إلى المسجد ولمَ أحفظ، بل كنتُ أحفظ فقط، وأعلم الآن أنني كنتُ أفعل ذلك من أجل مكانة اجتماعية أنالها بعد تحقيق ذلك الحلم العسير.

شعرتُ بالسخط وأنا أشاهد أصدقائي يلعبون ويستمتعون بالعطلة وأنا منحصر في المسجد أو في البيت أحفظ وأراجع وأراجع وأحفظ، دون أن أجد أية فائدة تُرجى من ذلك، اللهم إلا قليلَ الجُنيهات التي كنت آخذها من والدي.

وفي الثالثة عشر، بدأت أشكّ في نفسي، بدأتُ أحاول أن أفهم ما أحفظه ولكنني، كلما حاولتُ ذلك بادرتُ بالاستعجال من أجل أن أتمكن من الحفظ وألا أضيع أي وقت.. وبدأتُ أحضر الدروس الفقهية وأواظب على خطب الجمعة وأسمع الخطيب أو الشيخ وهو يُقدّم تفسيرات لا يستسيغُها عقلي، وأحاول أن أفهم ولكن مانعًا كبيرًا يمنعني هو أن عليّ أن أحفظ وأحفظ فقط، أما الفَهم فهو لهؤلاء "الآلهة" وليس لي، أنا الغلامُ الحقير!

قبل الرابعة عشرة ببضع شهور التحقتُ بالدورة الصيفية لتحفيظ القرآن الكريم، والتي تُقام على مدار أربعة أشهر، يستطيعُ المُلتحق بها أن يُنهيَ جزءا لا بأس به من القرآن، عشرة أجزاء، خمسة عشر، أو حتى ثلاثون، وأنا اخترتُ أن أحفظ خمسة عشر، وأراجع خمسة عشرًا كنتُ أحفظهم. وشرعتُ في هذه الدورة بالحفظ حتى أُنهِكَت قواي، كنتُ أفوز بالمركز الأول دائمًا، في الحفظ والمواظبة والالتزام، كنت أواظب على حفظ نصف جزء كلّ يوم، ولا أبرح ذلك القدر مخافة أن يَلحقني رفاقي أو أن يلومني شَيْخي. لكنني شعرتُ بالتعب، فجأة.. توقّفتُ عن الحفظ.. خرجتُ من المسجد، ذهبتُ إلى البيتِ، وشعرتُ بأنني لم أعد قادرًا، بعدُ، على مواصلة ما كنتُ أفعله كل هذه السنين..
 

شعرتُ بالسخط وأنا أشاهد أصدقائي يلعبون ويستمتعون بالعطلة وأنا منحصر في المسجد أو في البيت أحفظ وأراجع وأراجع وأحفظ، دون أن أجد أية فائدة تُرجى من ذلك، اللهم إلا قليلَ الجُنيهات التي كنت آخذها من والدي، أو بعض كلمات تمدحني فيها أمّي أمام جيراني.. حاولتُ أن أستعينَ بتخيّل نفسي وأنا أدخل باب الجنة جزاءً على حفظي ولكن سألتُ: ولماذا أفوز بها؟ ماذا فعلتُ حتى أفعلْ؟ ولماذا تنفعني الآيات التي حفظتها وأنا لا أفهمها ولا أفهم عمّا تتكلم أو عمّن تتحدث ولأيّ رسالةٍ نزَلَت؟.. إنّ عملي هذا بلا فائدة، هباءً منثورا.. شعرتُ بنفور كبير من القرآن، نفور لم أعهده من قبل، لشهور طويلة لم أشعر بالرغبة في إمساك المصحف أو تلاوة آياته، كنتُ أشعر بالضياع حقًا.

لحُسن الحظ، لم أتوقّف عند هذا الحين، وللحكاية بقيّة، أكمِلُها في جزءٍ قادمٍ إن شاء الله..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.