شعار قسم مدونات

بين الماكينة.. والإنسان

blogs - ATM machine
كمواطن عربي ألِفت الوقوف في طوابير الإدارات.. اعتدت تكشير الموظفين في وجهي .. أدمنت سماع عبارة "عُد غدا".. بإختصار تأقلمت مع الوضع .. لم أعد أندهش أو أستغرب. اليوم وعلى غير العادة وقفت أمام الصرّاف الآلي – ماكينة سحب الأموال – وأنا حديث عهد بالمدنية والتحضّر ..

 أدخلت البطاقة فنطقت الآلة وحيّتني ورحبّت بي أيّما ترحيب .. إي وربي أنا لا أمزح فقد قالت بلسانها الإفرنجي الرقيق welcome فمضيت أتمم خطوات عملية السحب على استحياء، وهنا أضافت بصوتها الملائكي في رقة وأدب please wait وما هي إلا لحظات حتى خرج المبلغ المطلوب وقبله خرجت البطاقة .. كل هذا والآلة العجيبة ترحب بيyou are welcome وتشكرني مجددا على زيارتي thank you.
 
أتحدث عن المسؤول المبرمج على لغة واحدة .. لغة ماذا تريد؟ لغة لم جئت؟ لغة مخاطبة الأسياد للعبيد. عن المسؤول الذي لم يتعلم يوما إحترام الإنسان كإنسان ومعاملته معاملة تليق بآدميته.

واو .. عجيب أمر هذه الآلة .. آلة تحترم الإنسان .. تحترم زبائنها من بني جنس الذي اخترعها وصنّعها فأحسن صنعها وبرمجها فأحسن برمجتها وأدبها فأحسن تأديبها .. لا تظنوا أني سأجري مقارنة بين الموظف البشري – الإنسان – وما أدراك مالإنسان وبين آلة .. كلا لن أفعل، ليس لأني لا أستطيع المقارنة بين مجرد آلة وُضعت لخدمة الزبون فتخدمه بلا كلل ولا ملل وبكل تواضع وأدب وبين موظف بشري صاحب العقل والفؤاد الذي لا يحترم أخاه الإنسان!

كل ما في الأمر أنّ هذه الآلة العظيمة جعلتني أزيح صخرة الصمت الجاثمة على صدري وألهمتني الحديث عن وضع إداراتنا المزري وعن تصرفات بعض الموظفين والمسؤولين الحكوميين المشين .. وأقول بعض لأن في الموظفين شرفاء ونُزهاء وهم ليسوا المقصودين في كلامي .. بل أنا هنا لأتكلم عمّن دون ذلك.

عن أصحاب المناصب والإدارات الذي إذا حيّيته حدجك بنظرة شك وارتياب، وإذا طالبت بحقك أشعرك أنك طالب هبة لا طالب حق، وإذا استفسرت عن سبب تقاعسه عن القيام بواجبه على الوجه الأكمل؟ أجاب بوقاحة : لست أعمل عندك! عن الموظف الحكومي الذي يعتبر عمله مكرمة لا واجبا .. ويُشعر مراجعيه أنه يخدمهم صدقة لا نظير مرتب يتقاضاه.

عن المسؤول المبرمج على لغة واحدة .. لغة ماذا تريد؟ لغة لم جئت؟ لغة مخاطبة الأسياد للعبيد. عن المسؤول الذي لم يتعلم يوما إحترام الإنسان كإنسان ومعاملته معاملة تليق بآدميته. لكن قبل ذلك علينا أن نعترف أن اللّوم هنا لا يقع على عاتق هذا الموظف أو المسؤول المتغطرس وحده، فالشعب أيضا يتحمل جزءً كبيرا من مسؤولية رداءة الإدارة باختلاف مؤسساتها، لأنه بدل أن يُحاسبهم و يُسائلهم كما تُسائل الشعوب المتقدمة موظفيها حتى وإن كانوا رؤساء أو وزراء، راح يُعظّمهم وينفخهم ويشعرهم أنهم مركز الكون وأنه لولاهم لما قضى أي مواطن مصالحه ومآربه.

عجيب أمر هذه الآلة .. آلة تحترم الإنسان .. تحترم زبائنها من بني جنس الذي اخترعها وصنّعها، فأحسن صنعها وبرمجها فأحسن برمجتها، وأدبها فأحسن تأديبها.

ناسيا أو متناسيا أنّ هذا المسؤول  واحد من الشعب وما وُجد في منصبه إلا ليخدم مراجعيه من أبناء شعبه، فمن البديهي أنه كلما كان الشعب خاضعا إلا وكان المسؤول متعجرفا وكلما كان متذلّلا إلا وكان الموظف متعظّما "فنحن من نصنع طواغيتنا" كما قال علي عزت بيغوفيتش .. ولذلك لا الشعب عرف حقه ولا موظفي البلد استحقوا مناصبهم التي يشغلونها، بل وأكاد أجزم أنه لو طبقنا الرجل المناسب في المكان المناسب لما بقي أحد من أهل المناصب ،فالفاسد لا ينتج إلا فاسدا والديكتاتورية لا تُنتج إلا الديكتاتورية والساكت عن الفساد مشجع له.

لكن لا بأس سأغمض عينا وأفتح فمًا لأصرخ وأقول: كل هذه المدّة ولم نتعلّم من هدي وأخلاق أنبيائنا وعلمائنا وحكماء أمّتنا . فعلى الأقل فلنقتد بهذه الآلة الجميلة.. ذات الخُلق والدّين!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.