شعار قسم مدونات

لماذا لم يكن الزواج خياري الأنسب؟

blogs الحب

لا أدري أي العناوين أكثر جاذبية أضعها لكم كي تتكرموا عليّ بقراءة هذا المقال حتى نهايته، وتكتشفون بأنفسكم علاقة المتن بالعنوان، فأنا أجد تفاعلا رهيبا من معظمكم مع نكتة أو صورة لفتاة جميلة في حين تبقى المواضيع المهمة مهملة ومركونة كالمصاب بوباء مُعدٍ.

 

لا أملك كلمات براقة تجذبكم، ولا مغامرات مشوقة تثير فضولكم أو أحاديث "تنمية بشرية" تبعث فيكم الأمل، ولست من "الرموز الشبابية الكيوت" الذين يصدرون لكم التفاؤل حين يعرضون عليكم سفراتهم المسلية ومؤتمراتهم العظيمة وملابسهم البراقة وتفاصيل حياتهم وأسماء مأكولاتهم التي لا أخجل شخصيا من السؤال في كل مرة عما إذا كان هذا الاسم عنوانا لحي مهجور في موزمبيق أو اسم أحد شوارع البرتغال، كل ما معي الآن هو ألم حين أكتبه يوجعني أكثر وينخر العجز في كل معاني كلماتي، ومغامرات قد لا يروقكم سماعها.

 

آخر مغامراتي كانت فيها هيئتي تبدو كئيبة جدا، وجهي لوّحته الشمس من وقوفي تحت أشعتها لساعات، وأقدامي متورمة من المشي والهروب من جنود الاحتلال الإسرائيلي، أحمل في يد علم فلسطين وفي الأخرى صورة أسير، وأهتف وحيدة بين عشرات الرجال، أشارك معهم في إغلاق أحد الشوارع الرئيسية التي يمر منها جيش الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنوه، حولي مجموعة من الشباب آمنوا مثلي تماما بأن الإفراج عن الأسرى يحتاج إلى مقاومة حادة. لم نكن نملك سلاحا وقتها، لكننا نملك على الأقل الخيار والإرادة أين نتظاهر وكيف نضغط على الاحتلال ونشتت انتباهه ونجبره على الإفراج عن الأسرى والمعتقلين، كُنا ندرك أن الرومانسيات الثورية والشموع والكتابات الغاضبة تُصبح في مرحلة ما سخيفة لدرجة مقرفة.

 

انظروا، لقد مللتم من هذه الكآبة التي أصدرها لكم، أسمعكم تقولون في أنفسكم، ما الذي يجبرنا على إكمال هذا المقال الذي قد يُنكد علينا بقية نهارنا! ربما السطر الأخير!

 

لحظة، سأدخل فورا بالموضوع، لا أستطيع تخليص نفسي من أنني عاجزة عن فعل شيء، وكل محاولاتي لإقناعها بجدوى الكلمات التي تُكتب عن القضايا الكبيرة باءت بالفشل. قضية فلسطين باتت تفاصيلها لا تهم سوى بعض الفلسطينيين، وأصبح لها متسلقوها وباحثوها وكُتابها وساستها وحشراتها، وفيها الأسرى الذين أصبحوا الآن في ضيافة الموت، يُنقل واحد منهم تلو الآخر إلى المشفى بعد مرور ما يقارب شهرا ونصفا على إضرابهم عن الطعام، وتصلنا الأخبار عن حالات الإغماء المتكررة لهم، في حين تنتظر آلاف العائلات بحسرة خبر استشهاد أحد أبنائها جوعا، ثم نأتي نحن وننقل أخبارهم كالغرباء ونندب تقصيرنا ونلوم أنفسنا ونلعن الحكومة والساعة التي استلمت فيها الحُكم وندعو للغضب والمواجهة وكل ذلك في "منشور فيسبوك".

 

نعم نحن كذلك، نثور ونغضب ونشتم ونزعبر، حتى إننا صرنا ننتقد أنفسنا وتقصيرنا وكل ذلك عبر منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، نكتب عن قضايا مصيرية أو نغير صورتنا الشخصية بما يتناسب مع حجم الخراب الذي حولنا، ثم نشعر براحة ضمير بعد تصدير إحساسنا بالقهر وشعورنا بالحزن للعالم، والغريب أننا نعتبر عدم تفاعل البعض وكتابته عن هذا الموضوع تقصيرا منه وقلة وطنية، وأصبحت مساحة الحكم على الشخص ونشاطه وفعاليته بمقدار حضوره على هذه الوسائل من عدمه، وكأن اتصاله بهذا العالم الافتراضي يعني بالضرورة اتصاله بالقضايا الكبيرة أو غيابه عنها.

 

ماذا نفعل؟ وماذا ننتظر؟ كلكم تطرحون السؤال ذاته وتعرفون إجابته، لا خير في الحكومة ولا في المستوى الرسمي، وكلنا شاهدنا كمية الذل والإهمال الذي تلقته الحكومة الفلسطينية خلال "مجاملة" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لها في أقل من ساعة، تجاهل فيها معاناة الشعب الفلسطيني واقتصر حديثه عن الإرهاب، واستغل وجوده على أرض فلسطين ليبعث تضامنه وتعازيه إلى بريطانيا التي كانت سببا في مآسينا ولم تمنحنا بعد انتدابها لنا سوى وعد بلفور وملايين القرود من اليهود. أما فصائل العمل الوطني والتي تتحمل مسؤولية كبيرة، فلا يظهر جمهورها العريض سوى باحتفالات انطلاقتها، بينما تعجز عن تحريك الملايين من أجل سبعة آلاف أسير، وهي تعلم أننا في هذا الوقت المحرج نحتاج إلى قرار جريء وموحد بالخروج إلى الشوارع والمواجهة.

 

صدقوني لم يبق عندي ما أقوله، حين تنازل الأسرى عن حريتهم من أجل أن نعيش بكرامة، وفقدوا عائلاتهم من أجل أن نبقى في دفء عائلاتنا، صفقنا لهم كثيرا، ثم توارينا وقطعنا أعناقنا الفضولية كي لا ترى ما يحدث لهم وتعرينا أمام انهزامنا ووجعهم.

 

ربما أنتم أيضا نفد الكلام منكم وبات بلا معنى، حتى طريقة العد التنازلي لأيام جوعهم التي تحولت إلى أرقام تحصونها كل يوم باتت تثير اشمئزازكم، وأصبح لعجزكم رائحة كريهة لا يطهركم منها سوى ثورة تنفض غبار التبلد عن أفكاركم وتصرفاتكم. وهذا أيضا رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين عيسى قراقع هزمه روتين التضامن الخجول وعجز المستوى الرسمي وسلبيته فخرج قائلا: "لا تجعلوني أستقبل جثث الأسرى من سجون الاحتلال الإسرائيلي، انتهى الكلام، لا داعي للصحافة والإعلام والتحليل والتنبؤات، الأسرى يصارعون الموت الآن، اكسروا الأقلام، ابحثوا عن مسدس ورصاص، لا تنظروا إلى ساعاتكم، انتهى الوقت، انتهى الوقت، لا ملح ولا ماء، جفت العروق وأغلقت الأبواب".

 

خلاصة القول، إن فكرة واحدة تظل تزعق في رأس كل واحد منا، تسكننا وتستوطن في وعينا، ولا جدوى من كل ما نفعله إن لم يخدمها. إنكم تهدرون حياتكم وراء هواتفكم المحمولة عبثا يا أصدقائي، ولا أدري ما الذي يمكن أن يحل بكم إذا انقطع الإنترنت عنها!

 

لقد أنهيت كلامي، شكرا لأنكم تحملتم نكدي، فليس لدي شيء مُفرح أقوله لكم، وقطعا من يعرفني جيدا يدرك أنني لستُ من الساذجات اللواتي يشاركن تفاصيل حياتهن الشخصية مع الناس، ولن تجدوا جوابا حول مشاعري هنا، لأن لدي الكثير من الهموم والقضايا التي أعتبر النقاش فيها أكثر أهمية من حياتي.

 

ربما الأجدر بنا أن نفكر ما الخيار الأنسب لتحرير الأسرى وبناء حياة سعيدة لهم. شخصيا لا يشغلني الآن أكثر من التفكير بأن الأسير كريم يونس الذي أعتُقل منذ عام 1983 أي قبل ولادتي بسنوات كثيرة، أصبح عمر سجنه أكبر بكثير من عمري

الحب الذي يُمكني الحديث عنه هُنا هو ذلك الذي لن نُجيد معرفته كما يعرفُه الأسرى، هؤلاء الذين أحبو الوطن فأهدوه أعمارهم، وحين زُرِعوا بغير أرضهم لم يذبلوا، وبقي كلاهما مخلصا للآخر، إنني أعلم كم يبدو الحب عظيما حين تمنح فيه كل الأشياء التي تتمنى الحصول عليها، وتقول كل الكلام الذي تحتاج أن تسمعه بشدة، حين تبدو مستنفذا وفارغا إلى الحد الذي لم تعد تستطيع فيه وصف قذارة وظلم ما يحدث حولك بالكلمات، لكنك تستمر فيه، ورغم كل ذلك يشعرون بشكل مذهل ويكتبون بشكل أفضل منا بكثير، بل يكتبون كل ما كنا نود قوله، وكل ما اشتهينا قراءته.

 

 بعد كل هذا الكلام، ربما الأجدر بنا أن نفكر ما الخيار الأنسب لتحرير الأسرى وبناء حياة سعيدة لهم. شخصيا لا يشغلني الآن أكثر من التفكير بأن الأسير كريم يونس الذي أعتُقل منذ عام 1983 أي قبل ولادتي بسنوات كثيرة، أصبح عمر سجنه أكبر بكثير من عمري، أنا التي تجاوزت مؤخرا الربع قرن وشعرت بأن الحياة طويلة جدا، فيما تجاوز عمر سجنه الثلاثة عقود وهو بين أربعة جدران.

 

عذرا لأنني لم أجد طريقة أخرى لإجباركم على قراءة موتنا سوى بخداعكم بعنوان براق اعتقدتم أنكم ستجدون تفاصيل تدهشكم في متن النص الذي يليه، ولم أفعل ذلك إلا حين تأكدت بأن المواضيع السخيفة باتت أكثر قبولا وتداولا بين الناس من قضايا حساسة كقضية الأسرى، هذا ما تعلمناه في الصحافة، ولم أستخدمه سوى اليوم، حين تأكدتُ أن لا أحد لديه القدرة على مشاركتنا في همومنا حتى السطر الأخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.