شعار قسم مدونات

الفيسبوك واليد الزرقاء والدائرة الصفراء

مدونات - فيسبوك

بدأت الحكاية عندما توجهت إلى عاصمة عربية لإلقاء محاضرة في أحد جامعاتها، وفاجأني اتصال من أخ صديق حميم لم أره من خمس سنوات مصراً على دعوتي للعشاء. سعدت كل السعادة وتلهفت للقاء، وفي المساء توجهت إلى منزل أصدقائي، عائلة رائعة: الأب والأم وولد وبنت في عمر المراهقة. رحبوا بي وجلست ثم استغرقت في الإجابة عن سؤال مساعدة المنزل اللطيفة: ماذا تريد أن تشرب؟ شكرتها وطلبت قهوة وكوب من الماء. حوار بسيط لم يستمر أكثر من دقيقة. وعندما انتهيت والتفت حولي وجدت كل من أفراد الأسرة العزيزة الأربعة وبتدرج إيقاعي مبهر وخاطف، يلتحمون مع تليفوناتهم الذكية أو الحواسيب اللوحية "الآيباد"، وفي خلال دقائق معدودة، أو على الأقل اعتقدت ذلك، أصبحت محاطا بعائلة أحبها كل الحب ولكنها غادرتني وأنا في قلب بيتهم دون أن يخطوا خطوة واحدة للخارج.
 

لم يغادروني فقط، ولكن بعضهم كان ينظر إلى الشاشات الصغيرة ويبتسم متحاوراً مع الصديق الرقمي البعيد. بل إن الابن انطلق فجأة في ضحكة عالية ولمرات متعددة، ثم تجهم واستمر ناظراً للشاشة. استمرت هذه الحالة لقرابة الخمس وأربعين دقيقة، نعم أكرر خمسة وأربعين دقيقة من الانفصال والعزلة أرتشف فيها من القهوة وأتأمل العائلة التي أحبها وأتطلع للحوار معها بعد خمس سنوات من البعد المكاني. انتهت حالة الاستغراق "الشاشاتي" فقط عندما سمعوا مساعدة المنزل اللطيفة تقول للمرة الثالثة العشاء جاهز.
 

لا أنكر أبدا قيمة الفيسبوك وأنا شخصياً أدين له بنشر أفكاري وكتاباتي، ولكنني في الوقت ذاته لن أسمح له أبداً أن يجعل حياتي الثانية (الحياة الفيسبوكية) هي حياتي الأولى (حياتي الإنسانية).

تقدمت للعشاء وأنا أتساءل: يا إلهي ماذا فعلت بنا يا مارك زوكربيرج؟ من حوالي ثلاثة عشر عاما كان ميلاد الحدث الذي يبدو الأكثر أهمية في القرن الواحد والعشرين، حيث كان ميلاد الفيسبوك أسطورة التواصل الاجتماعي!! واليوم يحتفل مارك زوكربيرج بوجود حوالي اثنان مليار مستعمل شهريا، ومتوسط 1.2 مليار مستعمل يوميا. وأن معدل إنشاء الصفحات على فيسبوك أصبح خمسة صفحات كل ثانية واحدة!! كل سنة وأنت طيب مارك زوكربيرج العبقري فيقيناً إنك جعلت الملايين تتواصل. واليوم ونحن نحتفل باكتمال أكثر من عقد كامل على هذا المولود المميز الذي جاء للدنيا فقط في فبراير عام 2004، يستوقفني ما فعله بنا الفيسبوك.
 

لقد اندمجنا في تجارب غير مسبوقة من الألفة والصداقة والحب والرفض والوهم والزيف بل والكذب (يوجد قرابة 90 مليون حساب مزيف على الفيسبوك). لقد شعرنا بالنشوة أننا نملك مئات بل أحياناً الآلاف من الأصدقاء بصرف النظر عن أن أكثر من نصفهم وأحيانا معظمهم، لن نعرفهم إذا قابلناهم في الطريق أو على المقهى الحقيقي. جعلك الفيسبوك تضغط على علامة لايك (اليد الزرقاء) ليس بالضرورة للفكرة المطروحة وإيمانك بها وقناعتك بمضمونها. ولكنك تفعل بسبب اسم من كتبها أو مجموعة الأصدقاء الذين وافقوا عليها، حتى تبقى في الدائرة التي نالت الرضا الفيسبوكي.
 

منحك الفيسبوك ساتراً كثيفاً من الخصوصية الوهمية والعزلة الهشة حيث يتيح لك بسلاسة تزييف حقيقتك فتضع الدعاء القرآني والحديث النبوي والأمثال الدالة والصور الأبوية ومقتطفات المشاعر الإنسانية فتتحول إلى المثالي الروحاني. أو تهاجم بقسوة وتهين بشدة وتهدر الكرامة فيهيأ لك أنك القوي المنتصر وتحتفل بانتصارك الفيسبوكي الزائف. أو تتجاوز بنعومة حتى لا تصاب بلعنات (الانفريند: الإزاحة من قائمة الاصدقاء والبلوك: الإعدام حذفاً). وفي كل هذه الحالات أنت مدرك تمام الادراك أن الطرف الآخر موجود وليس موجود. حقا فقد منحك الفيسبوك جرأة تجاوز لا يمكن أن تُقدم عليه لو أنت تنظر إلى عين من تسبب له الألم.
 

لا تتنازلوا أبدا عن حياتكم الأولى فلا شيء على فيسبوك يعوض الابتسامة الحقيقية، أو سماع كلمات الحب تصدر من إنسان يعني لك كل شيء، أو تلقي قبلة من أب أو أم أو بنت أو ابن أو زوجة تعبر عن مشاعر راقية دافئة متدفقة صادقة غير مستترة وراء ضبابيات الفيسبوك.

جعلنا الفيسبوك نجلس سويا بدون أن نكون سويا، طالما اندمج كل منا في حياته الثانية (الحياة الفيسبوكية). حتى المشاعر الإنسانية العميقة استبدلت استبدالا مثيراً ومحبطاً على صفحات الفيسبوك. فالابتسامة التي تسعدك من قريب أو صديق أو طفل بريء تحولت إلى فقاعة صفراء وخط منحني (الدائرة الصفراء). وتكاتف الآراء وتفاعل وجهات النظر استبدل بيد زرقاء. إما التعبير عن الحب فقد اختزل إلى قلب أحمر. بل إن القبلة، أجمل وسائل التعبير الحسي عن المشاعر الإنسانية تحولت إلى شفتين ورديتين. لا أنكر أبدا قيمة الفيسبوك وأنا شخصياً أدين له بنشر أفكاري وكتاباتي، ولكنني في الوقت ذاته لن أسمح له أبداً أن يجعل حياتي الثانية (الحياة الفيسبوكية) هي حياتي الأولى (حياتي الإنسانية).
 

أرجوكم لا تتنازلوا أبدا عن حياتكم الأولى فلا شيء على فيسبوك يعوض الابتسامة الحقيقية، أو سماع كلمات الحب تصدر من إنسان يعني لك كل شيء، أو تلقي قبلة من أب أو أم أو بنت أو ابن أو زوجة تعبر عن مشاعر راقية دافئة متدفقة صادقة غير مستترة وراء ضبابيات الفيسبوك.
 

لطفاً، إذا وافقتم على كلامي هذا فأرجوكم لا تدوسوا لايك. لا أريد يد زرقاء أو دائرة صفراء ولكن خذوا زمام المبادرة. مر على جارك وقل له إنك سعيد بوجوده حولك وحول عائلتك حتى لو لم يضع لك علامة لايك على بوستاتك الفيسبوكية. اتصل بصديق من أحبائك واطلب منه أن تلتقيا لتشربوا القهوة، وتبتسموا ابتسامات حقيقية وضحكات من القلب. اطلب زوجتك وادعوها إلى العشاء ومد يدك إلى يدها واشعر بدفء أصابعها الذي لن يحققه الفيسبوك أبدا. انظر بعمق إلى عيون أولادك وقل لهم كم أنت فخوراً بهم، ثم ضمهم إلى صدرك بقوة. انحني أمام أمك لترى حبك الحقيقي لها الذي لن يستبدله ملايين القلوب الحمراء التي ترسلها لها عبر الفيسبوك.
 

كل سنة وأنتم طيبين ومستمتعين بالحياة الأولى ومستمرين في الحياة الثانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.