شعار قسم مدونات

لا تقدسوا التاريخ ولا تشنقوه

مدونات - التاريخ
للنظرة المثالية إلى التاريخ وجهان، متلازمان في الواقع ومتنافران في الاستنتاج. فمن شأن هذه النظرة أن ترى تاريخاً بعينه، يجري وصفه مثلاً بتعبير "تاريخنا"، أو ربما "تاريخهم" الذي قد يكون تاريخ أمّة ما غالبة أو يقع الافتتان بها، منزّهاً عن أي منقصة، ولا تبصر منه هذه النظرة سوى إيجابيات مفترضة. والنظرة المثالية، ذاتها، هي التي تندفع في المقابل إلى استدعاء التاريخ إلى محاكمات تتبنى معايير مثالية لا تتصل بواقعه الذي كان، ثم تنصب له أعواد المشانق دون أن تمنحه حق الترافع.

ظل استدعاء التاريخ أو نبشه مسعى مفضلاً لاتجاهات عدة في الحاضر، يستعمل بعضها التاريخ بمقاصد استلهامية محفِّزة أو بمرامٍ ثأرية محرِّضة أو بنزعات تفكيكية وتقويضية. وهذه الأخيرة ترى في التاريخ جذوراً لشجرة خبيثة يجدر تجريفها واجتثاثها، على أنّ الصلاح والخبث ليسا حُكماً موضوعياً في غالب الأحوال. وليس من عجب أن نلحظ، والحال هذه، أنّ وفرة من مرافعات الاجتثاث تلك لا تأتي من منابر علمية رصينة، بل تنساح بين الجماهير في ما يشبه، أحياناً، حملات جارفة، مستعملة أدوات إعلامية مع نزعة علموية طاغية، متحاشية العبور عبر قنطرة المناقشة العلمية والبحث المحكّم والمدارسة وفق الأصول. فإرادة الاجتثاث إن كانت حُكماً مسبقاً، لا تتوانى عن استعمال العلم أو التناول التاريخي ذريعة للتمكّن. ولا يندر أن تعبِّر "الأكاديميا" ذاتها عن هذا المنزع، لأنها، منهجياً وواقعياً، لا تبرأ من التحيز، علاوة على أنّ استعمال ألقابها في هذا المسلك قد يكون توظيفاً جائراً للعلم في خدمة مقاصد سابقة عليه.

يتأرجح الوعي التاريخي بين اتجاهيْ تقديس التاريخ وتنزيه البشر من جانب، وتحطيم التاريخ واغتيال رموزه وشخصياته من جانب آخر.

التاريخ ليس الماضي
إنّ التاريخ هو وعينا باشتغال البشر في مساحة الماضي، فهو ليس الماضي بحذافيره وإنما إدراكه؛ الذي لا يرقى لأن يكون موضوعياً، بل ينطبع بوعي الذات – والآخرين – وكيفية فهم مكانتهما عبر الماضي والحاضر. وإذ هو وعي باشتغال البشر، فإنّ موضوعه لا ينفكّ عن الفعل البشري الذي لا يُعقل تنزيهه مهما بلغت الثقة بأهله مبلغها. ولمّا كان التاريخ متأسساً على وعي بما كان وإدراك لما جرى؛ فإنه متغير رغم ثبات الماضي، وتحوّله هذا ناجم عن اكتشافات جديدة مما جرى، وتبدلات في النظرة إلى الأشياء والأحداث؛ لا في الأشياء والأحداث ذاتها، وعن تفاعلات في المشارب والمذاهب والنزعات، علاوة على مراجعات واستدراكات في فهم الذات والآخرين.

نقسو على التاريخ إن طالبناه بما نعجز عنه في حاضرنا، ونجور على الحاضر إن مضينا إلى تقديس التاريخ وتنزيهه عما يقع من البشر. فهل من الواقعية، مثلاً، أن نطالب تاريخ المسلمين بأن يكون بذاته "تاريخ الإسلام"؟ كثير من الخلط قد وقع بتناول تاريخ المسلمين على أنه "تاريخ الإسلام" على وجه المطابقة، أو بافتراض أنّ "تاريخ الإسلام" -إن جاز التعبير- هو تاريخ المسلمين، وقد تؤول هذه المطابقة الساذجة إلى جَلْد تاريخ المسلمين أو التنصل من "تاريخ الإسلام" المُفترض، مع الرضوخ في ظل هذه النزعات لوعي تاريخي زائف غالباً.

إنّ الوعي بالفروق بين تاريخ المسلمين و"تاريخ الإسلام" مهم كي لا يُقدّس تاريخ المسلمين وكي لا يُحاكم أيضاً بمعايير غير واقعية تعزله عن سياقات الأزمنة وثقافة البيئات وتفاعلات العالم. وإن لم يكن تاريخ المسلمين هو "تاريخ الإسلام" ذاته؛ فإنّ ذلك مدعاة لتحاشي تنزيه الأول أو تقديسه؛ وللحذر من محاكمته بمعايير غير واقعية أيضاً؛ فهو يبقى تاريخ بشر ومجتمعات وممالك وإمارات لم تنفك عن التفاعل مع عالمها وأنساقها وطبقاتها ومصالحها وبيئاتها وثقافاتها وخبراتها، ودينها بالطبع.

وعي تاريخي متأرجح
إنّ ولوج الأمم والمجتمعات دورة زمنية جديدة ذات منحى كوكبي، مشبّعة بأنماط سابغة وبنزعات سارية عبر الأقاليم؛ يضغط على وعي كل أمة بذاتها وإدراكها لتاريخها، بمعنى أنه يفتن روايتها الذاتية للتاريخ. والحال مع العولمة وما يلازمها من ظواهر ونزعات، أنها تتخطى الأسوار التي احتمت بها الأمم أحقاباً، وتتجاوز النطاقات التي استأنست بها المجتمعات طويلاً، فأمم الزمن الجديد لم تَعد مسوّرة، أو أنّ أسوارها قد أمست تحصينات من زمن خلا فانتفت وظيفتها أو تكاد. وأخذت المجتمعات، والحال تلك، تفقد مركزياتها التي أتاحت لها سابقاً التحلّق حول الرواية الثقافية والتاريخية المعتمدة بسماتها المألوفة.

وفي خضم هذه التفاعلات يتأرجح الوعي التاريخي بين اتجاهيْ تقديس التاريخ وتنزيه البشر من جانب، وتحطيم التاريخ واغتيال رموزه وشخصياته من جانب آخر. على أنّ هذا الأخير يتحرّى مطاردة التاريخ ونزع الاحترام عن القامات والهامات إلى حد تلطيخها بالعار والشنار، وقد يكون مدفوعاً بنزعة ثأرية تتلبّس بالعلموية وتتذرّع شكلياً بالروح النقدية الأخّاذة.

تاريخ المسلمين لم يقتصر على فتوحات نحو الخارج بل احتوى "فتوحات" موجهة صوب الداخل أيضاً بمعارك وحروب، وهذا من سنن التدافع الداخلي الذي لم تبرأ منه أُمة ولم يخلُ منه عصر مما احتملته أعراف أزمان خلت قبل أن ينهض النظام الدولي كما نعرفه اليوم.

جدير بالانتباه أنّ القراءة الثأرية من بين أكثر قراءات التاريخ مخاطرة بحاضر الأمم ومستقبلها، لأنها تسعى في لحظتها القائمة إلى تصفية حسابات تراكمت عبر قرون غابرة، وهي تتخذ من التاريخ موقداً لصراعات الحاضر والمستقبل بدل استلهام العبر منه والاتعاظ بدروسه. ولن نعجب إن اتُخذت القراءات الثأرية مرتكزاً لأطماع ومادة تعبئة في خدمة استراتيجيات مرسومة، منها ما يراهن على التفكيك وتقويض الهوية ضمن سياقات حرب الأفكار مثلاً.

بين نقد التاريخ ونقضه
ثمّ إنّ بعضهم في حملته على التاريخ يمضي إلى نَفيِه، أو نزع الصفة الحضارية عنه، كأن ينادي بعضهم بنزع لافتة معيّنة في وصف التاريخ لتثبيت أخرى. قد نكتشف في هذه المرافعة نزعة افتعال أو تعسّف، إن وقع الحرص على نحت وصف أحادي للتاريخ يكتفي مثلاً بتحقيب الدول التي تعاقبت على أمّة ما، مع إغفال السياق العام أو صفة المجتمع وهوية الأمة. ألا يحتمل التاريخ أوصافا مركّبة، فيكون تاريخ المسلمين في مقطع زماني معيّن وإحداثيات مكانية مخصوصة تاريخاً أموياً وأندلسياً ومغاربياً وعربياً ومتوسطياً وإفريقياً وفارسياً وهندياً ومغولياً، أيضاً أو شيئاً من هذا تقريباً، ولا تنفي هذه الصفات جميعاً أنها من تاريخ المسلمين بدرجة أو بأخرى وأنه لم يكن معزولاً عن نطاقات ومؤثرات ثقافية وحضارية أخرى أيضاً؟

وهل من العدل النظر إلى تاريخ المسلمين بصفة مستقلة عن تاريخ العالم؛ وهم الذين لم يتحركوا في فراغ؟ وهل يصح بالتناول التاريخي أن يمضي إلى إغفال العالم بأقاليمه وأممه وثقافاته وتوازناته وتفاعلاته فيرضخ بهذا لمركزية أوروبية، أو مركزية إسلامية، أو تقابلية أوروبية – إسلامية تحت وطأة تصوّرات قامت على الاستقطاب بين مركزيْن؟

أما المعترضون على أوصاف من قبيل "الفتوحات الإسلامية"؛ فيسوقون حججاً وجيهة نسبياً، رغم ما يخامر خطاباتهم أحياناً من مغالاة ظاهرة ونزعات ثأرية، إذ يبقى الوصف إشكالياً إن قُصد به أو فُهم منه أنها من فعل الإسلام ذاته، بكل ما يخالط الفتح والغزو والتوسع من منكرات وشوائب لا يمكن للإسلام أن يقرّها -ولو قلّت نسبياً- أو من تجاوزات هي من عمل الجيوش والسرايا والقادة والولاة لا من عمل الإسلام ذاته. لكنها تبقى فتوحات المسلمين، بدولهم وممالكهم وإماراتهم، ولا تنفك أيضاً عن أحوال زمانهم وثقافات بيئاتهم ومنازع مجتمعاتهم. والحال أنّ تاريخ المسلمين لم يقتصر على فتوحات نحو الخارج بل احتوى "فتوحات" موجهة صوب الداخل أيضاً بمعارك وحروب، وهذا من سنن التدافع الداخلي الذي لم تبرأ منه أُمة ولم يخلُ منه عصر مما احتملته أعراف أزمان خلت قبل أن ينهض النظام الدولي كما نعرفه اليوم؛ وإن تشبّع الحاضر البشري بالحرب والغزو والتوسع؛ لكن وفق أنظمة وأعراف جديدة، يمارس بعضها التوحش الحديث الذي يفارق سابقه في الأدوات والأشكال والتعبيرات.

لا يغيب عن النظر أنّ الأديان والقيم جميعاً خضعت في القديم والحديث لاستعمالات شتى في مقاصد الحرب والعدوان والتوسّع والاستغلال، وقد جرى ذلك باسم حفظ السلام، أو التحضر والتعمير والتنوي..

لا ينبغي إغفال الفارق بين سلطة التوجيه وسلطة الإلزام، وإن اجتمعتا شكلياً. فالتوجيه يتحرّى الكمال ويسعى لإحراز المثال مما لا يُبلَغ بكلياته في واقع البشر بحال. ولا ريب أنّ الدين مهما بلغ شأوه لا يحتكر توجيه البشر ولا يكوِّن وحده ثقافاتهم ونزعاتهم، بل إنّ فهم الدين وقراءة النص في مظانه مما يتلبس بالواقع ويتأثر بخبراته البيئية وظروفه الزمنية وخلفياته الثقافية على افتراق بين الحالات في المنسوب طبقاً لمستوى الفهم ومدى تجرّد المقصد عن الهوى.

وإن كان المسلمون قد توسعوا أحياناً بحد السيف فلا يقضي هذا بسلامة القول الرائج بأنّ الإسلام ذاته قد انتشر بحد السيف؛ إلا لو اعتبرنا الدولة وسلطانها وجيشها هي الدين عينه، وهذا تعسّف جسيم، علاوة على أنّ توسّع دول المسلمين لم تلازمه "أسلمة الشعوب" جميعاً في نطاقاتها، والبلقان شاهد على ذلك.

ومن مقتضيات الرشد في النظر إلى التجارب التاريخية خوض الاستدراكات ومباشرة المراجعات، وتشتد الحاجة إلى هذا المطلب بعد إدراك تبدّل الأحوال وشطط التجربة وتجافي التطبيق عن التوجيه في مقصده الأول. بيد أنّ الفارق مهم بين نقد التاريخ ونقضه، أو بالأحرى؛ بين نزع القداسة المتوهّمة عنه ودَوسه بالأقدام.

يقع بعض الذين يطالبون بنزع القدسية عن التاريخ في مأزق إن باشروا محاكمته بمعايير مثالية أو تنزيهات قُدسية كي ينتهوا به إلى المقصلة. فإن لم يكن التاريخ منزّهاً فالأحرى بهم أن يتعاملوا معه بواقعية وبمنظار من داخل سياقاته الظرفية أو باستصحابها؛ لا من خارجها أو بإغفالها تماماً، كأن يجري تقويم أداء دول وممالك وإمارات ومجتمعات في ألفيّة خلت أو ألفيّتين بمنظور الحاضر ونفسياته، أو بمواصفات اختطّها المجتمع الدولي الذي نعرفه اليوم وعجز في واقعه عن الامتثال لكثير من مقتضياتها.

التباسات في الوعي التاريخي
يجري في أعمال وفيرة تناول تاريخ المسلمين باسم "تاريخ الإسلام"، ونجد ذلك واضحاً في خطاب تمجيد التاريخ الذاتي، وأيضاً في بعض اللغة الاستشراقية مثلاً. ويسود انطباع تقليدي في الوعي الجمعي للمجتمعات الأوروبية والغربية بأنّ الإسلام هو الذي يوجِّه سلوك المسلمين بكليّته، وهي نظرة نمطية ساذجة تنتهي إلى تحميل الإسلام المسؤولية عن سلبيات تُرى من ماضي المسلمين وحاضرهم، ومن ثقافاتهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم، مع ميْل إلى تفسير ما تُعدّ جوانب إيجابية بربطها ببواعث أخرى كتوجهات تحديثية وربما بتأثيرات غربية، أي تحميل الإسلام مسؤولية "السلبيات" فقط تقريباً. وانبثاقاً من النظرة ذاتها شاع مصطلح "الإسلام السياسي"، الذي ظهر ابتداء في الأدبيات الغربية، وهو تعبير إشكالي يتخطّى المسافة بين الاستلهام والتطبيق، وهو كفيل بأن يُنشئ التباسات؛ إذ يوحي بأنّ الممارسة السياسية المقصودة منبثقة عن الإسلام ذاته وليس عن بشر قد يؤكدون مرجعيتهم الإسلامية بغضّ النظر عن مدى امتثالهم لها وكيفيته.

إن كان معقولاً محاكمة التاريخ استناداً إلى فكرة موجِّهة مع إغفال شروط الواقع وتفاعلاته، وإن كان يسع أي جماعة بشرية أن تنجو من وصم المروق من المبادئ إن حوكمت بمعاييرها -المبادئ- وحسب.

وإن احتجّ بعضهم بالقول إنّ هذا الالتباس ناشئ عن الظاهرة الشعاراتية، التي رفعت لافتات إسلامية في الماضي والحاضر؛ فإنّ التنبيه واجب إلى أنّ حاملي الشعار هم المسؤولون عن الممارسة وليس الشعار ذاته. فإن أخفق المجتمع الدولي في مكافحة الفقر والجهل والمرض، فلا يقضي هذا ببطلان شعار محو الأمية مثلاً. وقد لا يَسلم المقصد أساساً؛ فقد يغدو الشعار مادة دعائية تتستر بها ممارسات شائنة، فإن اقترفت بعض الأحزاب والسلطات والأنظمة موبقات شتى باسم الوطنية أو الديمقراطية، فليس من شأن هذا أن يدين الوطنية والديمقراطية من حيث المبدأ.

ولا يغيب عن النظر أنّ الأديان والقيم جميعاً خضعت في القديم والحديث لاستعمالات شتى في مقاصد الحرب والعدوان والتوسّع والاستغلال، وقد جرى ذلك باسم حفظ السلام، أو التحضر والتعمير والتنوير، أو حرية التجارة وتأمين المسالك، أو تحقيق الحرية ونشر الديمقراطية، أو غير ذلك. وقد نحا البشر في تجاربهم إلى استلهام ما عدّوه مطلقاً ومجيداً، من الحقائق والقيم والرمزيات، حتى صعدت تجارب في الحاضر البشري مثل "جيش الرب" و"حزب الله" علاوة على نظام احتلال عنصري موسوم باسم نبيّ: "إسرائيل".

المسألة هي إن كان معقولاً محاكمة التاريخ استناداً إلى فكرة موجِّهة مع إغفال شروط الواقع وتفاعلاته، وإن كان يسع أي جماعة بشرية أن تنجو من وصم المروق من المبادئ إن حوكمت بمعاييرها -المبادئ- وحسب. ومهما كانت المبادئ في سموِّها والتوجيهات في فعاليتها؛ فإنّ لتجارب الأمم والمجتمعات أن تتفاعل في الواقع البشري لا في مختبرات معزولة عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.