شعار قسم مدونات

محاكمة حماس بأداء فتح

blogs - حماس وفتح

بعد صدور وثيقة المبادئ، لم تتوقف المقارنات بين فتح وحماس، وأن الأخيرة على خطى الأولى، وهذا ليس هراءً بالتأكيد، وليس قصوراً في الفهم والاستنباط، بل قد تكون مفهوماً ابتدائياً ومنطقياً في النقد التجريبي للوثيقة. إن حجم التخوف من الدخول بمسار سياسي مجرّب، يعطي حماس رصيداً كبيراً كطرف ربما هو الأمل الوحيد ليكون بديلاً عن الوضع التائه اليوم، هذا الوضع الذي بدوره وقع تلقائياً تحت استفتاء شعبي من أصحابه قبل خصومه بسبب الوثيقة.

 

وقد لا نبالغ لو قلنا أن جلّ وربما كل انتقادات فتح ومنظمة التحرير لوثيقة حماس تنبع من نقطة الخوف من البديل المنتظر عن حالتها العقيمة. هذا جانب مهم لدى تحليل الوثيقة ومضمونها. فقبل قراءة المضمون لابد من قراءة السياق الذي تأتي فيه هذه الجملة من المبادئ، والتي مهما تحدثنا عن قِدمها وتكرارها في خطاب حماس، فهي جديدة وسياقها يقوم لأول مرة في تاريخ حماس.

لطالما دخلت فتح وحلفاؤها في تنافس محموم مع حماس التي نجحت في أن تقف وحدها كندّ كبير للحلف الفلسطيني التقليدي لفصائل المنظمة، وهو حلف يشبه نظام الإقطاع والبرجوازية في حياة الريف العربي قديماً، اعتمد على مقايضة القوت بالولاء لمالك وسائل الإنتاج كما تعرّفها أدبيات اليسار. وبين صعود حماس وفقدان الجدوى الوطنية من العلاقة المشوّهة بين فصائل المنظمة وفتح، بقيت الأخيرة تحتفظ بـ "الشرعية الفلسطينية".

لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية أكثر من ثورة تجاوزت إطارها الزمني والسياسي في عام 1974 حين تبنت البرنامج المرحلي. وباتت تدرك أنها ملزمة بالبحث عن شرعية ما كي لا يتحول حجمها المتنامي إلى عبء عليها

"الشرعية الفلسطينية" تعبير مجازي هنا عن التموضع الفلسطيني السياسي وقبوله في عالم العلاقات الدولية والإقليمية. فكل نضال منظمة التحرير لم يكن شيئاً بدون شرعية ما في المجتمع الدولي الذي لا يمكن تجاهله مع كل شعارات العفة والنقاء السياسي. والثورة التي تتحرك بمعزل عن هذه الاعتبارات هي ثورات قصيرة الأمد من حيث الزمن والنهاية السياسية المرجوة من اندلاعها، ونجاحها ممكن ضمن هذه الحدود، وصعب في الفضاءات الأوسع التي لا يمكن اعتباراها فراغات خاوية من التفاعلات الملزمة.

لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية أكثر من ثورة تجاوزت إطارها الزمني والسياسي في عام 1974 حين تبنت البرنامج المرحلي. وباتت تدرك أنها ملزمة بالبحث عن شرعية ما كي لا يتحول حجمها المتنامي إلى عبء عليها. بعد تبني برنامج النقاط العشر في شهر حزيران/يونيو من العام 1974 على أرضية زخم الفعل الفلسطيني وشعبيته في السبعينيات منحت الجامعة العربية بعدها بأربعة أشهر فقط أول شرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للفلسطينيين في قمة الرباط، وبعدها بشهر فقط استقبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة عرفات بمسدسه وغصن زيتونه في خطابه الشهير حينذاك.

 

والشاهد أن البرنامج المرحلي لم يأتِ تحت وطأة تغيرات هيكلية في العالم والإقليم، ولا في جانب الضيق السياسي وانعدام مخارجه، وإنما في ظل اتساع رقعة الفعل الوطني والبحث عن بنوك سياسية لتصريف مدخراته المتنامية، دون إغفال أنه جاء كمراجعة داخلية لتجربة الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن وما أعقبه من أحداث دامية في أيلول الأسود وتأزم العلاقات العربية-الفلسطينية.

لم تفقد المنظمة بعد برنامج النقاط العشر شرعيتها الشعبية، والتخوين الذي حصل بتشكيل جبهة الرفض كان مدفوعاً بالخلافات العربية أكثر منه قناعةً فلسطينية أو عربية خالصة، فجبهة الرفض المدعومة من العراق وليبيا حينها انتهت بعد أقل من خمس سنوات بالتقارب السوري العراقي وانعقاد المجلس الوطني في دمشق بجميع الفصائل سنة 1979.

 

معظم الانتقادات الموضوعية والمستقلة التي وُجهت للبرنامج المرحلي كانت لاحقة عليه بسنوات، تحديداً بعد مؤتمر الجزائر عام 1988 ودخول المنظمة نفق التفاوض بلا أفق والاعتراف الضمني ثم الرسمي بالاحتلال. ويمكن القول أن البرنامج المرحلي حُوكم موضوعياً بعد سنوات على خلفية المآلات التي انتهى إليها أصحابه من مؤتمر الجزائر وصولاً لسلطة التنسيق الأمني بدلاً من "السلطة الوطنية ورفض الحدود الآمنة" التي نص عليها البرنامج. بينما وثيقة حماس اليوم تُحاكم بأداء غيرها، وتُخوّن وتُجرّم لدى البعض لفعل لم تقترفه، فيما أداء حماس في الحلبة الدولية لم يأخذ مساره الحقيقي حتى الآن.

وثيقة حماس جاءت في توازنات وتفاعلات دولية وإقليمية طالبتها بما هو أكثر منذ 30 عاماً حين انطلقت حماس والعالم يسلم مفاتحه كلها للهيمنة الأمريكية

تقدم وثيقة حماس نفسها كبديل للأداء وشريك في الشرعية التي انتزعها الفلسطينيون بفعل الاعتدال المطلبي وطنياً المصاحب لأداء نضالي فاعل على الأرض. وفيما يتجاوز البرنامج المرحلي للمنظمة وثيقة حماس في بعض الصياغات، فإن وثيقة حماس تتجاوز النقاط العشر بالسياق والتوقيت. فالسياق مأزوم وأعقد بمراحل كبيرة مما كان عليه الوضع الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي. كما أن الهيكل الدولي المحكوم اليوم بأحادية أو تعددية قطبية كان محكوماً في السبعينيات بثنائية أوجدت توازناً ما استفاد منه الفلسطينيون.

 

والأهم من كل هذا أن الوضع الداخلي الفلسطيني لم يكن محل تنازع وطني بين مسارين متعاكسين، وهو في أسوأ الحالات كان محل تنافس وشقاق محكوم بالحزبية والفصائلية التي طبعت المشهد الفلسطيني ولاتزال منذ عقود. وثيقة حماس جاءت في توازنات وتفاعلات دولية وإقليمية طالبتها بما هو أكثر منذ 30 عاماً حين انطلقت حماس والعالم يسلم مفاتحه كلها للهيمنة الأمريكية.

 

إن إعلان الوثيقة في توقيت ما يمكن أن يخضع لحسابات كثيرة، وكل التحليلات التي تضعها ضمن مقاربات زمنية وسياسية من قبيل لقاءت حماس مع بلير أو ظروف الربيع العربي أو انتهاء ولاية مشعل، هي مقاربات تستند لجزئيات موضوعية، لكنها لا تعطي تفسيراً كلياً للسياق الذي يصعب قراءته منعزلاً عن الواقع الفلسطيني الداخلي، والتوازن الإقليمي الذي يتفاعل في مرجل لم يخرج منذ ثلاثة عقود عن خطوط الضبط الدولية، إضافة إلى العالم الذي تغيرت منحنيات تأثيره أكثر لصالح الاحتلال، وكانت أبرز تجلياتها الحملة الدولية للحرب على الإرهاب، حيث يمكن ممارسة كل موبقات الحرام السياسي والقانوني تحت عباءته.

المقارنة بين الخط الذي انتهجته منظمة التحرير بقيادة فتح وبين خط حماس الذي عبرّت عنه الوثيقة، هي مقارنة مشروعة ومهمة في ضبط الأداء الوطني. لكنه يبقى قاصراً مالم يناقش السياق والظروف السابقة واللاحقة. وتبقى المقاربة القطعية بينهما ظالمة مالم ننتظر أداء حماس وفرصتها التي لا تبدو أنها لاحت كما حصل مع عرفات الذي قطفها خلال شهور في الاعتراف العربي والدولي بالصفة التمثيلية والشرعية لمنظمته. فظرف حماس الدولي والإقليمي اليوم يختلف كلياً عن عالم السبعينيات.

من الصعب جداً التكهن بسلامة المسار الذي عبّرت عنه حماس في وثيقتها، ولكن الأصعب هو الحكم مسبقاً على المآلات التي لم تحدث بعد. وعليه فإن التخوف والنقد مشروع وهو ضمانة ورصيد ينبغي على حماس تشجيعه وتأييده

إن حماس التي تعتبر نفسها أكثر من دفع أثمان المواقف الجذرية كانت الأقل حظاً في الحصول على نصيبها المستحق من "الشرعية الفلسطينية" المأسورة لصالح مسار وفصيل بعينه. ووثيقة حماس ربما هي الخطوة العقلانية من أجل تحصيل حقها، الذي هو في النهاية حق طيف واسع من الشعب الفلسطيني يقف خلفها. إن النقطة المتمثلة بالتوزيع العادل للشرعية تمثل ضمانة وطنية وسياسية للحد من الانزلاقات بقدر قد يفوق التخوفات التي حذرت من اللحاق الأعمى بمسار منظمة التحرير وقيادة فتح السياسي.

وختاماً فإنه من الصعب جداً التكهن بسلامة المسار الذي عبّرت عنه حماس في وثيقتها، ولكن الأصعب هو الحكم مسبقاً على المآلات التي لم تحدث بعد. وعليه فإن التخوف والنقد مشروع وهو ضمانة ورصيد ينبغي على حماس تشجيعه وتأييده، أما التخوين والأحكام المطلقة والنهائية (سواء بالسلب أو الإيجاب) فهي ذات منبع قد يكون منطقي في البناء، ولكنه ليس كذلك في الأساس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.