شعار قسم مدونات

تراب الوطن

blogs - daria
هو الشوق الذي لا يكاد ينقطع، هو الحنين الذي يتعب الفؤاد، هو الأب والأم والعائلة، هو كل الذكريات الجميلة في حياتي، هو التاريخ والمستقبل، هو الحاضر والماضي. أجيال وأجيال، أحياء أموات، السماء والأرض، وأي أرض هناك حيث الأحبة تحت الثرى دفنوا بأغلى التراب ألا وهو "تراب الوطن".

 
كم كنت أسمع هذه الكلمات من أخواني الفلسطينيين والعراقيين حينما لجأوا إلى سوريا وكان برفقتهم ذلك المفتاح وعبوة فيها بعض التراب؟؟ ما هذه الأشياء التي لا تفارقهم ما هو ذلك المفتاح وما هذا التراب؟ ما قيمتهما؟ لماذا كل شخص منهم يحتفظ بتلك الأشياء؟

 حينما سألت أحد الأخوة الفلسطينيين ما هذا المفتاح؟ قال لي: "هذا مفتاح الوطن ومفتاح الدار، مفتاح الماضي الجميل والذكريات والحنين لهم. إنه مفتاح العودة يا بني"، وبدأت عيناه تذرفان دموع لن أنسى قهرها وعذابها لم أكن أشعر قيمة هذه الكلمات لصغر سني ولم أعي أي كلمة من كلامه.
 

سوف تبقى جباه ثوار حمص جانب ما تبقى من مسجد سيدنا خالد ابن الوليد، وتفاح الزبداني، وعنب داريا، وزيتون معضمية الشام، وهواء قدسيا، ومياه نهر بردى وعين الفيجة.

ولكنني الآن أدركت قيمة تلك الكلمات "تراب الوطن" ومفتاح الدار. وقيمة تلك الدموع التي ذرفت ذاك دموع القهر والحنين. منذ ترعرعت وحتى خروجي من مدينتي داريا في تاريخ ٢٨/٨/٢٠١٦، لم أكن أتخيل نفسي بأنني يوماً ما سوف أغادرها دونما عودة. فكنت بمجرد سماع كلمة الغربة، أشعر بالشوق والحنين لمدينتي.

مدينتي داريا تلك المدينة الريفية البسيطة المشهورة بعنبها الداراني وأرضها الخصبة، وشعبها الطيب. لم يعرف التاريخ لها أن أُفرغت من سكانها، رغمَ تعرضها لحملاتٍ على مرِّ التاريخ، لكنها اليوم فارغة من سكانها البالغ عددهم مئتان وخمسون الف نسمة. هجرنا خارجها إلا من نال الشهادة ودفن تحت ترابها على أيدي ما يسمى رئيس البلاد وجيشه والميليشيات الموالية له هجرنا على دفعات وفق سياسة مدروسة أمام مرأى العالم.

فمنذ أول طلقة أطقلها جيش الأسد علينا كان يريد تهجيرنا، ومنذ أول حالة اعتقال كان يريد منا أن نترك مدينتنا، و منذ أن حاصرنا ومنع الطعام والشراب عنا كان يريد ركوعنا، ومنذ أول قصف بالكيماوي والأسلحة المحرمة والبراميل المتفجرة كان يريد أن يمحوا أثرنا ويكسر عزيمتنا، كل هذا والعالم شاهد على أقذر جرائم التاريخ دونما أي حركة. رغم كل ذلك قدمنا أغلى ما نملك لنبقى على ترابها، لأجلها تحملنا كل العذاب وضحينا بأغلى ما نملك وهي روحنا، وعاهدنا أنفسنا أن نبقى فيها حتى ندفن تحت ترابها، وهنيئا لمن وفى بالعهد ونال وسام"تراب الوطن".

لعلي لن أنسى ذاك اليوم الذي شاهدت فيه خروج أهالي مدينة حمص التي لقبت بعاصمة الثورة السورية حينها كنا نعيش أيام الحصار الذي عاشوه قبلنا ولم أتوقع أبدا أن نكون نحن اللاحقون بخروجنا من مدينتنا بقهر كبير وجرح لن يندمل ما دمنا بعيدين. و لن أنسى يوم خروج أهالي مدينة حلب من مدينتهم لأنني كنت الضحية التي سبقتهم بفترة قصيرة فكان الجرح يتسع والقهر يزيد.

ولعل التهجير القسري لن يتوقف مادام هذا العالم المتخاذل صامت ولن يتحرك. وخير كلام على حال من هجر خارج مدينته اليوم قول الشاعر نزار قباني:

نُفيــت واستــوطــن الأغــراب فـي بلدي ::: ومــزقــوا كـــل أشــيــائــي الــحــبــيــبـات

لأجلها تحملنا كل العذاب وضحينا بأغلى ما نملك وهي روحنا، وعاهدنا أنفسنا أن نبقى فيها حتى ندفن تحت ترابها، وهنيئا لمن وفى بالعهد ونال وسام "تراب الوطن".

سوف تبقى جباه ثوار حمص جانب ما تبقى من مسجد سيدنا خالد ابن الوليد، وتفاح الزبداني، وعنب داريا، وزيتون معضمية الشام، وهواء قدسيا، ومياه نهر بردى وعين الفيجة، وقلعة حلب وأسواقها هي المنابر المضيئة لنا حتى نرجع إلى مدننا. خرجنا من داريا كما خرج من أرضهم قبلنا أهالي حمص والزبداني، ومن بعدنا عديد المناطق.

و لكن لن يموت حق ورائه صاحبه، ولن تموت قضية ورائها مظلوم، ولن تفنى ثورة حق ورائها ثائر، ولن نتخلى عن أرض نحن أصحابها. فحق عودتنا محفوظ في قلوبنا، وسوف نزرعه في قلوب الأجيال القادمة، حتى يعود الحق لصاحبه من مغتصبه، وحتى نضع مفتاح الأمل في مكانه لنصنع مستقبلا يسوده العدالة والكرامة والحرية، و نزرع "تراب الوطن" ورداً سقي بدماء شهدائنا شهداء الكرامة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.