شعار قسم مدونات

محنة الأدب

blogs - رجل يكتب
لا أدري لما نصيحة "القراءة" هي أمضّ النصائح على من يستنصحني، ولماذا يتغير بعضهم عند الحديث عنها، ولماذا ينتاب أحدهم الغضب الذي أقرأه في وجوههم إذا قالوا: كيف أكتب، ورددت عليه: قل لي كيف أقرأ؟ وكأنه يظن أنني أعتدي على عقله، أو أعبث بمخيلته، أو أنتهك ثقافته، أو أسفّه حلمه، أو أتهمه بالجهل مقدما.

ولمّا سألت بعضهم لمن قرأت حتى تُقدم على الكتابة، ذكر لي بضع أسماء شابه نتاجها الأدبي لم يتعد الثلاث روايات، ولا يستقيم إنتاجهم أمام نقد ولا يستقر قائما على قدم، إذ إن كاتبه غير راسخ ولا رصين، وليس له من الخبرة الحياتية أو الثقافة العامة أو الخاصة أو المعرفة بما يكتب أو جودة التعبير عما يريد إيصاله للقارئ.

وإذا أراد بعضهم أن يتملص من الأسماء الشابة المشهورة على مواقع التواصل الاجتماعي قال إنه قرأ لأحمد خالد توفيق، ثم إذا أراد بلوغ الغاية من أقصر الطرق قال بكل فخر وثقة إنه قرأ لنجيب محفوظ بضع روايات لا تسمن ولا تغني من جوع، وكأن محفوظ حصن أمان لا يمكن المساس بتلامذته.

وحتى لو قيل لي إنه قرأ لمحفوظ وعبد القدوس وإدريس والسباعي والسحّار وتيمور وهيكل والمازني وغيرهم من الجيل الأول والثاني، قلت وماذا بعد؟ وتفسير تساؤلي أن قراءة الرواية لا تنتج رواية، فهو أشبه بسماع قصيدة لاستخدام قوافيها وكلماتها ذات الجرس الرائع والنغمات اللطيفة والمعاني الجذلة الجذابة لصنع واحدة أخرى، أو لأخذ قميص منمق واستخدام قماشته في صناعة قميص آخر مع إضافة ما يضاف لجعله مختلفا عن سابقه.

إن أسوأ ما يمني به الكاتب أن تكون شهوة الكتابة عنده أكبر من شهوة القراءة، والأسوأ من ذلك أن يقرأ الكاتب ليكتب لا ليعرف ويتثقف، فضلا عن أن يقرأ لينتقد ويجادل.

وليس ذلك تعنتا في ضرب المثل، أنظر لجيل ما وراء الطبيعة ورجل المستحيل ممن أنتجوا أربعة وخمسة وما يزيد، ما زلت تشم رائحة أحمد خالد توفيق ونبيل فاروق في كتاباتهم، وذلك لأنهم استقبلوا هذا الغيث بعقول جدباء مشققة فامتلأت ثناياهم، بل ذابت تربتهم في مائهم فلا يسلم لك الفصل بين الماء والثري لشدة اختلاطه. ثم ضاقت قرائحهم بالصبر على القراءة في الأدب العربي في البلاغة والبديع لتنمية الأسلوب وتهذيبه، أو السياحة في كافة العلوم والثقافات المختلفة لأخذ ما يلزم عند الحاجه وقت الكتابة.

لذا فأغلب من راسلني كان يعتمد على "جوجل" في المعرفة إذا عنّ له أمر مبهم ذو صلة بعمله الأدبي، والحقيقة أن جوجل لا يوثق به يقينيا دائما، إذ إن كتّاب المقالات أو الدوريات الموثقة لا تظهر في الغالب في أوائل صفوف البحث، إضافة إلى أنها لا تسمن ولا تغني من جوع إن صحّت، فهي تعطي شذرات معرفية تكاد تكون كالأمثال الشعبية في شهرتها، فمن أين إذن يأتي تفوق الكاتب بثقافته على القارئ إذا لم يغص في بطون الكتب بحثا لاستخراج المعرفة!

فالرواية لا تنتج رواية، هل يصح صحن الخبز بعد نضجه لنصنع منه بيتزا؟ البعض يفعلها بالرواية بلا خجل ولا حياء! فأولى بالكاتب أن يعرف أن قراءاته المطولة المتأنية القائمة على البحث بطول المشقة والجهد هي السبيل لأعمال تستحق مسمى الرواية.

وهل الرواية في عمقها سوى معرفة يقينية بما يدور حوله موضوعها، ثم ييسر لكاتبها جودة الأسلوب وسلامة الصياغة، وعبقرية التعبير، وحرفة انتقاء الألفاظ، ومَلَكَة التأليف بين ذلك كله نهاية! ثمّة نصيحة لكل من يستنصحني وهو يبدأ مشواره الأدبي: أعط نفسك عاما تفرغ فيه للقراءة لا تمسك فيه بقلم. ولو فعل؛ فذلك العام سيريحه أعواما طويلة، وسييسر عليه الرجوع لمظان معرفية مر عليها من قبل دون تعب أو كلل إن تعرض لبحث قضية ما. إن أسوأ ما يمني به الكاتب أن تكون شهوة الكتابة عنده أكبر من شهوة القراءة، والأسوأ من ذلك أن يقرأ الكاتب ليكتب لا ليعرف ويتثقف، فضلا عن أن يقرأ لينتقد ويجادل.

من الغريب أنك تدخل صفحة أحدهم فتجده إما موغلا في نشر مقطوعات دينية، أو اقتباسات عن أدباء موتى عرب وأجانب كدلائل ثقافية! وقلما تجد مقطوعة أدبية واحدة ذات رصانة.

لذا فهو بحاجه لأن يتعلم كيف يُجري بحثا علميا أو اجتماعيا، أن يعرف ما هي مراجعه ومصادره، فما بالك إن كان الكاتب لا يعرف الفرق بين المرجع والمصدر! ترتب على ذلك نشوء كائنات ضعيفة ترزح في القاع تتغذى على فتات الأدب أو على الأضعف منها. كهؤلاء الذين ينشرون مراجعات لزملاء يسفهون فيها قلمهم جملة واحدة، وعلى التفصيل ينسفون الرواية صفحة صفحة، وما الغرض من ذلك كما أشم في مراجعاتهم مصلحة الأدب ولا ما أوجبه النقد، بل مصلحتهم الشخصية من حب الظهور ولفت الانتباه، وهي حيلة خسيسة مجربة ناجحة عبر عصور الأدب والثقافة.

أما الكاتب المسكين والذي يقف غرضا لسهام ضعيفة متكسرة فجديرة أن تصيبه بمقتل لأنه لم يتعلم كيف يكتب ولا كيف يدافع عما كتب. ثم فلنرجع إلى الذي يقتات على الضعفاء، إن كلامه في الغالب لا يدل عن معرفة بالأصول والعناصر ولا قواعد الأدب ولا مدارسه ومذاهبه، ولا يذكر إن قال أن السرد سيئ أن يذكر بعدها كيف هو سيئ، ولكنه يمضي ناقدا بذوقه الذي ما هذبته الآداب العربية من نثر وشعر أو مقامات ورسائل. وليس له علاقة بفنيات الرواية وعناصرها وتآلفها، ولا كيف تبدو جيدة فنيا أو جيدة ذوقيا!

إنني أنظر لهذه المراجعات وأعود للتعليقات عليها، فأراني مبتسما بحزن، راثيا متسائلا بعجب: كيف ينجح هذا النصب الأدبي على عقول القراء المثقفة؟ كيف نجح (الناقد) الكسيح الذي لم ينشر من روايات سوى روايتين أو ثلاث على الأكثر بعضهم سيئ في خداع القارئ؟ فالنقد به بعض من الفلسفة، فهو لا يقول إن هذه الرواية جيدة بل يقول للجيد جيد، وللسيئ سيئ. ومن هنا ينهض أدبنا المعاصر ويزدهر ويتطور ويتقدم، وتبث فيه روح جديدة بها يستطيع منافسة الآداب العالمية الأخرى كالإنجليزي والفرنسي والروسي والأميركي.

ومن الغريب أنك تدخل صفحة أحدهم فتجده إما موغلا في نشر مقطوعات دينية، أو اقتباسات عن أدباء موتى عرب وأجانب كدلائل ثقافية! وقلما تجد مقطوعة أدبية واحدة ذات رصانة، مصاغة بأسلوب جيد، جزلة العبارة، بليغة المعنى، عذبة اللفظ والمقصد، بل لن تجد قراءة أو عرضا لكتاب من كتب الأدب ذات القيمة والشأن حديثا أم قديما قراءة واعية مثقفة، تستعرض خلاله نوابض النص وما يجيش به من معاني خافتة أسفل السطور!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.