شعار قسم مدونات

هل المعجزةُ من أساطير الأولين؟

blogs - صفحة القرآن
إنَّ القصدَ من إعادةِ الإمامِ الغزَّاليِّ طرحَ العليةِ أو السببيةِ – كما ذكرَ هوَ نفسُه في كتابِه تهافتِ الفلاسفةِ – هو إثباتُ المعجزاتِ، وإثباتُ أنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ، فكيفَ تناولَ إمامُنا أبو حامدٍ هذه المسألةَ؟ اعتادَ الفلاسفةُ أن يتصوروا العلاقةَ بينَ السببِ والمسبِّبِ، على أنَّها علاقةُ اقترانِ تلازمٍ بالضَّرورةِ، فلا يمكنُ أن يوجدَ مُسَبَّبٌ بلا سببٍ، أو بلا مُسَبِّبٍ، إذن فالعلاقةُ بينهما حتميةٌ، وبالتالي فإنَّ اللهَ ليسَ قادرًا أن يوجِدَ سببًا بلا مُسَبِّبٍ له؛ وذلك لأنَّ اللهَ نفسَه سببٌ يفعلُ بطبيعتِه، وهذا يعني أنَّ اللهَ خاضعٌ لقوانينَ تتجاوزُه.

أما الإمامُ أبو حامدٍ، لم يقتنع بهذا الكلامِ، ولا بهذهِ النتيجةِ، فقدَّمَ تصوُّرًا عبقريًّا للسببيةِ، ورأى أنَّه ليسَ من الضروريِّ أنْ يكونَ إثباتُ شيءٍ متضمنًا لإثباتِ آخرَ، وكذلك ليسَ من الضروريِّ أن يكونَ نفيُ شيءٍ متضمِّنًا نفيَ آخرَ؛ أي أن يكونَ -على سبيلِ المثالِ- الشبعُ مقترنًا بالأكلِ، وإثباتُ الشبعِ لا يتمُّ إلا بالأكلِ، ومن وجهةِ نظرِه أنَّ اقترانَ الشبعِ بالأكلِ، واقترانَ النورِ بالشمسِ، وغير ذلك، هو اقترانٌ قدَّرَه اللهُ سبحانَه وتعالى، بخلقِها على التساوقِ، لا لكونِه ضروريًّا في نفسِه.

بمعنًى آخرَ: إنَّ الأكلَ ليسَ المسببَ الحقيقيَّ للشبعِ، وليسَ في ذلكَ ضرورةٌ حتميَّةٌ، بل إنَّ اللهَ خلقَ هذا مساوقًا لهذا ومواليًا لهُ وعندَه، لا بِه؛ أي أنَّ الشبعَ عندَ الأكلِ، وليسَ الشبعُ بالأكلِ، ولا أنَّ الشبعَ لا يتمُّ إلا بالأكلِ، وإنَّما يتمُّ عندَه وفي سياقِه، وقد يقولُ البعضُ: إنَّ في ذلكَ سفسطةً لغويَّةً، وسنرى بعدَ قليلٍ إذا كانَ هذا الكلامُ سفسطةً لغويةً أم أنَّه كلامٌ سليمٌ خرجَ من فمِ عبقريٍّ.

إنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ، كانَ يأكلُ سبعَ مراتٍ في اليومِ، ويقولُ: واللهِ لا أشبعُ وإنَّما أعيا. وذلكَ كانَ بسببِ دعوةِ رسولِ اللهِ عليهِ: لا أشبعَ اللهُ بطنَه.

ضربَ زينُ الدينِ؛ أبو حامد الغزَّاليُ لنا مثالًا، وهو احتراقُ القطنِ، وأشارَ إلى أنَّ البعضَ يعتقدُ أنَّ فاعلَ الاحتراقِ هو النَّارُ فقط، وهو فاعلٌ بطبعِه لا باختيارِه؛ أي أنَّه لا يمكنُ على الإطلاقِ أن لا تحترقَ قطنةٌ إذا وضعتَها في النارِ؛ وذلكَ لأنَّ النارَ في رأيِهم تفعلُ ذلكَ قسرًا وكراهيةً وطبعًا، لا اختيارًا. ورفضَ أبو حامدٍ هذا الأمرَ – أنَّ الفاعلَ هو النَّارُ – ونحا إلى أنَّ اللهَ هو الفاعلُ إمَّا بوساطةِ الملائكةِ، أو بغيرِ وساطةٍ، فما الذي يدرينا أنَّ النارَ هي الفاعلةُ وهي التي تحرقُ؟! وليسَ لنا دليلٌ إلا مشاهدة حصولِ الاحتراقِ منذُ ملامسةِ الشيءِ النارَ، والمشاهدةُ تدلُّ على حصولِ الاحتراقِ عند َالنَّار، لا بها.

وضربَ مثالًا على الأكمهِ – والأكمهُ هو الذي وُلِدَ أعمى – وكانت في عينيه غشاوةٌ، ولم يسمع من الناسِ الفرقَ بينَ الليلِ والنهارِ، ولو انكشفتِ الغشاوةُ عن عينيهِ نهارًا وفتحَ أجفانَه فرأى الألوانَ، فإنَّه سيظنُّ أنَّ إغماضَ الجَفنِ وفتحَه هو السببُ في ظهورِ الألوانِ في عينيهِ؛ أي أنَّه سيبدأُ بإغماضِ عينيهِ، فتختفي الألوانُ، ثمَّ سيفتحُ عينيه، فتحضرُ الألوانُ مرةً أخرى، وربَّما وضعَ حاجبًا بينَ عينيه وبين الألوانِ، كيدِه مثلًا أو كتابٍ، فتختفي الألوانُ، ثمَّ أزاحَ يدَه أو أزاحَ الكتابَ، فيرى الألوانَ ثانيةً، فإنَّه سيظنُّ تلقائيًّا بأنَّ سببَ عدمِ ظهورِ الألوانِ، هو الغشاءُ الذي على عينيهِ، أو جفنُه، أو يدُه، أو الكتابُ.

وحينَ تغربُ الشمسُ ويحلُّ الظلامُ، سيضطربُ الرجلُ ويظنُّ أنَّ هناكَ غشاءً عندَ عينيهِ، وسيغمضُها ويفتحُها، وسيحاولُ بشتَّى الطرقِ والوسائلِ أن يعيدَ البصرَ إلى عينيهِ من خلالِ فتحِها وإزاحةِ أي غشاوةٍ، وقد لا ينامُ الليلَ محاولًا ذلكَ، حتَّى إذا طلعتِ الشمسُ، أيقنَ أنَّ رؤيةَ الألوانِ تكونُ بسببِ الشمسِ. فمن أينَ يأمنُ الخصمُ أن تكونَ في مبادئِ الوجودِ عللٌ تفيضُ منها هذه الحوادثُ عندَ حصولِ ملاقاةٍ بينها؟! إلا أنَّها ثابتةٌ لا تنعدمُ، ولا هي أجسامٌ متحركةٌ فتغيب، ولو انعدمت أو غابت لأدركنا التفرقةَ، وفهمنا أنَّ هناكَ سببًا وراءَ ما شاهدناهُ.

ويريدُ أبو حامد أن يشيرَ من خلالِ كلامِه هذا، إلى أنَّ اعتيادَنا على رؤيةِ النارِ تحرقُ الأشياءَ، جعلَنا نعتقدُ أنَّها هي التي تتسببُ في إحراقِها، فلو أنَّنا لم نألف ولم نعتد على ذلكَ، أو لو أنَّنا شاهدنا ولو لمرةٍ واحدةٍ رؤيةَ النارِ لا تحرقُ؛ لأدركنا أنَّ النارَ ليست هي المسببةُ في الإحراقِ، وإنَّما هناكَ علةٌ خفيَّةٌ، كما رأينا في قصةِ الأكمهِ.

هل معجزةُ سيدنِا إبراهيمَ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلام، وهي إلقاؤه في النارِ معَ عدمِ احتراقِه، خرافةٌ وأسطورةٌ؟! أم أنَّها غيرُ ذلك؟!

وبعدَ أن فهمنا السببيةَ وتصورَها عندَ إمامِنا أبي حامدٍ، سنضعُ أمثلةً حيَّةً تبرهنُ على صحةِ وجهةِ نظرِ أبي حامدٍ، فمثلًا: إنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيانَ كما يذكرُ ابنُ كثيرٍ في الجزءِ الثامنِ من البدايةِ والنهايةِ، في الصفحةِ السابعةِ والعشرين بعدَ المائةِ، كانَ يأكلُ سبعَ مراتٍ في اليومِ، ويقولُ: واللهِ لا أشبعُ وإنَّما أعيا. وذلكَ كانَ بسببِ دعوةِ رسولِ اللهِ عليهِ: لا أشبعَ اللهُ بطنَه. ونفهمُ من خلالِ ذلكَ أنَّ الأكلَ ليسَ المُسَبِّبَ الحقيقيَّ للشبعِ، وأنَّ اقترانَهما ليسَ ضروريًّا ومتلازمًا، وإنَّما أحالته العادةُ إلى الاعتقادِ بذلكَ. وهذا التفسيرُ وجدَ صداهُ في الغربِ، فإمامُ التجريبيةِ الفيلسوفُ البريطانيُّ، أشارَ في كتابِه (مقالة بشأنِ الفهمِ الإنسانيِّ) إلى أنَّ المبادئَ المُسَلَّمَةَ، والأفكارَ العامةَ، ليست عامةً بذلكَ العمومِ الذي كانَ يُظَنُّ، ومن هذه المبادئِ، مبدأُ السببيةِ. ولمن أرادَ الاستزادةَ، فليعد إلى كتابِه، ويقرأ القسمَ الثانيَ منهُ.

كما أنَّ مالبرانش وجورج بيركلي أكَّدا على أنَّ اللهَ هو العلةُ المطلقةُ للأشياءِ، وليستِ الأشياءُ هي العلل. وكذلك الفيلسوف ديفيد هيوم، قالَ بالشيءِ نفسِه، وأشارَ إلى أنَّ العلةَ وأثرَها، يتولَّدانِ في أذهانِنا نتيجةَ مشاهداتٍ سطيحةٍ، وتعاقبٍ ظاهريٍّ، وذلكَ أنَّنا شاهدنا غيرَ مرةٍ بعضَ الظواهرِ يتبعُ بعضُها بعضًا فأصبحنا نظنُّ بأنَّها عللٌ.

وكذلك ميكانيكا الكم، التي تقومُ على الاحتمالاتِ، ومبدأ عدمِ اليقينِ، أو عدمِ التأكيدِ لهايزنبرج. فميكانيكا الكم لا تستطيعُ أن تجزمَ بشيءٍ، وتبتعدُ دائمًا عنِ الحتيمةِ، وهي التي قوَّضت وهدمت النظريةَ الحتميةَ للابلاس الفرنسي؛ الذي كانَ يعتقدُ أنَّ بمعرفتنا للشروطِ البدئيةِ، نستطيعُ أن نعرفَ ماذا سيحصلُ بعدَ كذا وكذا سنة، وهذا ما هدمتهُ فيزياءُ الكم.

وخلاصةُ الأمرِ: ليسَ هنالكَ ما يُدعى بالحتميةِ، وليسَ هنالكَ ما يُسَمَّى بالعلةِ المطلقةِ والاقترانِ الضروريِّ الإجباريِّ بالطبعِ وليسَ بالاختيارِ. والآنَ، وعلى سبيلِ المثالِ: هل معجزةُ سيدنِا إبراهيمَ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلام، وهي إلقاؤه في النارِ معَ عدمِ احتراقِه، خرافةٌ وأسطورةٌ؟! أم أنَّها غيرُ ذلك؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.