شعار قسم مدونات

الرواية والمكان والإنسان.. سردية العمران وبنائية المدينة

blogs - old cairo
منذ قرأت مقولة العظيم ويليام شكسبير "ماذا تكون المدينة سوى البشر"، وقد تزايد اهتمامي بعلاقة الإنسان بالمكان. وقد تحول هذا الاهتمام إلى مشروع نقدي بحثي تبلور في كتابي الأخير "مدن العرب في رواياتهم" الصادر مطلع العام الجاري. كان هدفي الرئيسي هو اختبار الأدوار التي يمكن أن يلعبها الإبداع الروائي في إعادة اكتشاف المدينة وعمارتها وعمرانها، وكذلك استشراف مجالات أو روافد إبداعية ملهمة يمكن أن تشكل حقبة أو حقبات جديدة ومتوالية في العمارة والعمران العربي المعاصر.

إن المدينة ليست مجرد بنايات وشوارع وأسوار وبيوت وحواري وميادين، وإنما هي أيضا روح خلاقة تتبلور في شكل تجليات متعددة منها اللغة والأسطورة والتراث والمقدس والفن والأدب. هنا نركز على مكونين رئيسيين؛ الأول يؤسس لفهم معمق عن موقع المكان في السرد الروائي وخصوصية هذا الموقع. ثم فهم قيمة الرواية في العمل الإبداعي وعلاقة هذا المجال المتميز بإطارين جوهريين في تشكيل البيئة المبنية وهما العمارة والمدينة.

إن في الرواية هناك مدنا متنوعة، مدنا متخيلة ولا مرئية، ومدنا واقعية مرئية وموجودة، على غرار الإدراك الواقعي لمدينة لندن في أعمال تشارلز ديكنز.

أما المكون الثاني فيركز على الكيفية التي رصدت بها الرواية العربية مواقف متباينة من المدينة العربية وعمارتها وعمرانها ومنطق تخطيطها. هذه المواقف المتباينة، تتراوح بين الأطروحات النقدية المحللة لما تواجهه البيئة العمرانية والمعمارية، وخاصة في المدن التي تتسم بعمق تاريخي وشخصية تراثية تقليدية متميزة. كما تشمل تلك المواقف صياغة أطروحات تنقد حالة التغريب وانتشار النموذج الحداثي دون استعداد واضح من المجتمع للتفاعل مع أماكن تصاغ عمرانها وعمارتها من خلال مدارس تصميمية بعيدة عن قيم ومبادئ المجتمعات التي يصمم لها.

من التساؤلات النظرية الأساسية، ما له علاقة بتصور السرد الروائي للمدينة وبيئتها المبنية. ما هي المدينة الروائية، وكيف يمكن تشكيلها؟ كيف يمكن أن نصنف الإدراك المكاني في الرواية؟ الواقع أن في الرواية هناك مدنا متنوعة، مدنا متخيلة ولا مرئية، ومدنا واقعية مرئية وموجودة، على غرار الإدراك الواقعي لمدينة لندن في أعمال تشارلز ديكنز أو مدينة القاهرة في أعمال نجيب محفوظ أو مدينة الإسكندرية في سرد إبراهيم عبد المجيد. ولذا من المهم صياغة مجموعة من المفاهيم التي تتضافر بصورة عضوية لتشكل الطرح الفكري وهي: 
 

المفهوم الأول:
العلاقة بين الرواية والمكان هي علاقة حتمية أو علاقة وجود. فالرواية بناء درامي متكامل يتمكن فيه الكاتب من خلق عالم تتفاعل فيه الشخوص والأحداث والأماكن. والمكان يمثل "مسرح الحدث" في كل من الرواية والعمارة.

المفهوم الثاني:
الرواية في مجملها، ترصد علاقة إنسان ما بمكان ما في تاريخ ما. هذا الرصد يمكن أن يتنوع ما بين ثلاث احتمالات للتعامل مع إشكالية المكان. أولها أن هذا المكان واقعا حقيقيا له بيئته المادية الملموسة والمعروفة في نطاق جغرافي معلوم. ثانيها أن يكون المكان نسيجا افتراضيا لعوالم خيالية لا واقعية وثالثها أن يكون التعامل مع المكان كنطاق استشرافي مستقبلي.

المفهوم الثالث:
وهو يرتبط بفرضية إمكانية رؤية وفهم أي مدينة عربية من خلال السرد الروائي الذي أبدع عنها وخلالها. أي أننا يمكن ان نقدم تصورا متكاملاً و متفرداً عن مدينة ما من خلال فحص مجمل النصوص الروائية التي كتبت عنها وخاصة تلك التي حرصت على فهم المدينة كسياق ومحتوى للتفاعل الإنساني المكاني الزماني.

تقدم الروايات على المستوى المعماري والعمراني ما يعرف بالفراغات التخيلية أو الفراغات اللامادية التي تمثل ذخيرة إبداعية ورافد ملهما ومهما للمعماريين والعمرانيين.

بناء على المفاهيم السابقة تأتي أهمية القراءة النقدية التحليلية للإبداع الروائي المرتبط بنطاق جغرافي مكاني معين لقدرتها على تقديم تصور أكثر عمقا ودقة لتعقيد وتركيب وربما إعادة تركيب علاقة الإنسان بالمكان. لقد تعددت الأعمال الروائية التي صدرت في العالم العربي وقدمت في نسيجها الروائي فهماً أو تصوراً أو نقداً للعمارة والعمران العربي المعاصر.

ومن ثم تأتي أهمية دراسة فراغية أو فضائية الإبداع السردي الروائي، أو بالأحرى اختبار فكرة العلاقة بين الفراغ المكاني والسرد الروائي. إن العلاقة بين الرواية والعمارة وثيقة، ولكنها أيضا متعددة المستويات ومتنوعة الأدوار. فمن الدراسة يمكن أن نرى التداخل العميق بين الأعمال الروائية وبين حركة العمارة والعمران. هذا التداخل يمكن أن يصيغ آفاق جديدة في التعليم والممارسة على السواء من خلال فهم ثلاث أدوار رئيسية يمكن أن تقدمها الرواية:

الراوية كعمل توثيقي:
لعبت الرواية دورها التوثيقي للمكان وعمارته وعمرانه. فالتسجيل الزماني والمكاني يحول الرواية أحيانا إلى فن فوتوغرافي، ولكن بصورة تتجنب جمود وبرود وأحيانا حيادية الصورة الفوتوغرافية، لأنها على الرغم من توثيقها الزماني والمكاني، إلا أنها تستعيد ديناميكيتها وحيويتها عندما تبدأ عملية التلقي. وعندما يتلقاها القارئ بتجاربه ومشاعره يبدأ في تفكيك الصورة، وإعادة بنائها ومزجها بما يريد من معاني.

وهنا يتحول العمل الروائي إلى كيان صلب حافظ لتاريخ مكاني أو إنساني. حقا تتعرض المدن والسياقات العمرانية والإنسانية بها للسحق والدمار ويبقى توثيقها المباشر في الصور الفوتوغرافية والأفلام الوثائقية، أو توثيقها الإنساني التحليلي المتجدد في الأعمال الروائية.

الرواية كعمل نقدي:
الرواية إذا أدركت واستوعبت كأداة نقدية في العمارة والعمران، يمكن أن نستشف منها قضايا نقدية ملحة وتلفت نظرنا إلى بقاع قد لا يسقط عليها الضوء أبدا في المشهد المعماري العمراني حين يستوعب بأعين المتخصص المهني المحترف فقط. كما يمكن أن تلعب الرواية دورا مقاوما في إيقاف استيراد القيم الجمالية الغربية والاستسلام لها.

الرواية كعمل ملهم:
تقدم الروايات على المستوى المعماري والعمراني ما يعرف بالفراغات التخيلية أو الفراغات اللامادية التي تمثل ذخيرة إبداعية ورافد ملهما ومهما للمعماريين والعمرانيين. ومن هنا قد يكون من الجائز أن تتبنى استوديوهات التصميم والتخطيط في مدارس العمارة، أفكاراً حول تحويل الفراغات التخيلية في النصوص الروائية إلى فراغات مدركة في التصورات المعمارية والعمرانية.

ومن ثم فقد يكون من الضروري للمعماريين والعمرانيين سواء العاملين في الأطر الأكاديمية أو أوساط الممارسة المهنية، إدراك قيمة وقدرة الرواية بشقها التوثيقي أو النقدي أو الملهم على تقديم إجابات لتساؤلات مشروعة منها:

العلاقة بين الرواية والمكان هي علاقة حتمية أو علاقة وجود. فالرواية بناء درامي متكامل يتمكن فيه الكاتب من خلق عالم تتفاعل فيه الشخوص والأحداث والأماكن. والمكان يمثل "مسرح الحدث.

– هل يكون من العدالة أن نترك لأحفادنا مدنا إسمنتية حديدية باردة ومشوهة كما صورت قسوتها نصوص روائية متعددة؟
– هل مدينة ناطحات السحاب هي الإجابة النموذجية لمستقبل العمران العربي والخليجي؟
– هل تتحول مثل مدينة القاهرة بسيطرة ثقافة الزحام إلى مدينة قاسية تتنافس فيها الجماعة القاطنة بها بدون رحمة وبلا إنسانية؟

– هل يمكن أن تساعد الرواية في إيقاف النزيف التراثي المستمر في كل المدن العربية؟
– هل يمكن أن تساهم الرواية في أن تستعيد المدن العربية والخليجية عامة ومدينة القاهرة خاصة، روحها التي تتشكل من أرواح البشر القاطنين بها، تتأثر بهم ويتأثرون بها؟
– هل يمكن أن توثق الرواية الملهمة مراحل فقدان روح المدينة؟

ما أريد أن أؤكده في هذا السياق أن الرواية بأدوارها الثلاث، قادرة على تنبيه وتحفيز وإلهام المعماريين والعمرانيين والمخططين لصياغة حقبة أكثر إنسانية في العمران العربي المعاصر شريطة أن تعتبر من قبل المعماريين والعمرانيين على أنها مجال إبداعي متفرد يملك قدرات نقدية وطاقات إبداعية ملهمة ويستحق الاقتراب الشديد منه في حال وجود رغبة صادقة لصياغة مستقبل أفضل لعلاقة الإنسان بالمكان في المدن العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.