شعار قسم مدونات

يحرفون الكلِم

blogs - قرآن
وعد الحفظ مستمر

حفظ القرآن في السطور والصدور بهذا الشكل الأمين، الذي فيه من الجلال والجمال والاحترام لهذا الكتاب العظيم، هو وجه من وجوه الإعجاز الذي لم ولن يحدث مع كتاب آخر، (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: ٤١، ٤٢). ولقد رأينا جميعًا صدق القرآن عندما يخبرنا أنه محفوظ بحفظ الله له؛ فلا تبديل ولا تغيير ولا تحريف أصابه منذ أكثر من ١٤٣٠ سنة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ٩).

وأهل الكتاب يحرفون كلامه
وليس عبثًا أن تأتي في القرآن (المحفوظ) أفعال أهل الكتاب مع الكتب المقدسة التي جاءتهم نورًا وهداية. يقول الله عنهم: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (النساء: ٤٦). أما في سورة المائدة فيقول الله عنهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) (٤١) إذًا فالتحريف عند هؤلاء أخذ أشكالًا متعددة: (عَن مَّوَاضِعِهِ) و(مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ).. والهدف من وراء تحريف الكلام – كلام الله – هو أن يخدم الكلام المحرف مصالحهم الشخصية وأهواءهم، فإذا ما جدَّ جديد يحرفون المحرف، وهكذا كلما زادت الأطماع زادت عملية التبديل والتحريف في المحرف أصلًا!

التأويل بغير علمٍ كالتحريف

رحل "مسروق" إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام. فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها!

ولكن، في رأيي، تفسير القرآن بالرأي المجرد، وأخذ معنى منه بغير علم، أو الاستدلال ببعض آية بعيدًا عن الآية كاملة، وبعيدًا عن فهم السياق الذي جاءت فيه الآيات، وبعيدًا عن توضيحات السنة النبوية، وبعيدًا عن قواعد اللغة العربية، وبعيدًا عن روح الشريعة وطبيعتها.. هذا كله نوع من أنواع التحريف اسمه (تحريف المعنى)، وإذا حُرِّف المعنى ضاع المبنى ولا بد من ذلك!

وإلا فما قيمة كلام محفوظ في الأذهان، محفور على الجدران، مكتوب على الأوراق، لكنه لا يعمل في نفس الإنسان معناه الحقيقي، ويعتقد الإنسان في الكلام غير مراد الكلام نفسه؟! فأصبح كثير من حقائق القرآن مشوشًا على كثير من العقول والأفهام، وكثير من نصوصه محرفًا في أذهان الناس! والسبب هو القول فيه بغير علم، وهوى وجهل، ووضعه في غير موضعه.

ورد عنهم

أورد الإمام ابن كثير – رحمه الله – في مقدمة تفسيره أخبارًا في تحرُّج السلف عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛ فتجد علماء الصحابة، وهم أعلم الناس بمراد القرآن وساعة نزوله وسبب نزوله، ومع ذلك كانوا يتوقفون عن القول في القرآن، وأحيانًا امتنع بعضهم عندما سُئل عن الآية الواحدة، وأحيانًا كانوا يتخوفون من تفسير كلمة واحدة!

فعن إبراهيم التيمي – رحمه الله – أن أبا بكر الصديق سُئل عن قوله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فقال رضي الله عنه: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وعن أنس – رضي الله عنه – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قرأ على المنبر (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وعن ابن أبي مليكة – رحمه الله – أن ابن عباس – رضي الله عنهما – سُئل عن آية – لو سئل عنها بعضكم لقال فيها – فأبى أن يقول فيها.
 

لا تشارك في التحريف

الخوض في التأويل بغير علم بأصول اللغة ومدلولاتها كله نوع من أنواع التحريف اسمه (تحريف المعنى)، وإذا حُرِّف المعنى ضاع المبنى ولا بد من ذلك!

الخوض في بحر القرآن (كمفسر) بغير ما يؤهل لذلك يُغرق المقتحم فيه؛ لذلك تجد يدي الرسول – صلى الله عليه وسلم – ممتدة تحجزنا وتحول بيننا وبين التقوُّل على القرآن بغير علم، بل ويعدد أشكال التحذير حتى نكون على يقين من جدية الأمر وخطورة المسألة؛ فمرة يحذرنا من القول بمجرد الرأي، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (رواه الترمذي وحسنه).

ومرة يحذرنا من القول بغير علم، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) (رواه الترمذي وحسنه). فأنت ترى هنا أنه صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا احترام التخصص واحترام المعقول والمنقول، ويعلِّمنانا أن نتعلم حتى نقول عن علم ويقين وعن ثبات المعرفة وليس ظنيات الجهل والأوهام والتخبط.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب) (مجموع الفتاوى ٣٧١/ ١٣).

للمعنى ذاته، اعلم أن من قال في القرآن برأيه مفسرًا وشارحًا وموضحًا بغير علم ينطلق به لهذه المهمة العظيمة، إن أصاب فيها فقد أخطأ؛ لأن الذي يصيب مرة بالجهل، يعتمد على جهله بعد ذلك ويتخبط في ظلمات الجهل وأوهام العقول وضلالات الأذهان، ويخطئ آلاف المرات في حين يظن نفسه على الصواب؛ لأنه أصاب المعنى مرة واحدة قبل ذلك فيضل ويضل!
 

امتنع وتعلم وانشر

في حالة أنك لا تدري، وجب عليك السكوت عمَّا لا علم لك به، ويعينك على هذا السكوت آية من القرآن نفسه وتجربة إمام. أما الآية فهي قول الله تعالى: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: ٣٣). قال الإمام البغوي – رحمه الله -: (هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين). أما التجربة فهي للإمام مسروق – رحمه الله -: (اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله).

سئل أبا بكر الصديق عن قوله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فقال رضي الله عنه: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟

ثم الواجب على الذي لا يدري أن يتعلم ويسأل ويبحث، وقدوتك في هذا السعي المبارك حديث وإمام.. أما الحديث فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري عن عثمان – رضي الله عنه – والخيرية هنا تشمل كل من يحاول ويسعى إلى تفهم القرآن وعلومه، وليس فقط ما يتبادر إلى الذهن من تجويده.

أما الإمام فهو الإمام مسروق – رحمه الله – الذى قال العلامة الشهبي – رحمه الله – عن تجربته في تحصيل وتفسير وتعلم القرآن: رحل "مسروق" إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام. فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها!

وعندما تتعلم وتكون من أهل المعرفة والقول، يجب عليك أن تنشر خيرك على غيرك، ويجب القول فيما سُئلت عنه مما تعلمته (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: ١٨٧). وما بين السكوت والتعلم والنشر تنبت شجرة المعرفة لمعاني القرآن ومراد الله فيه منا، ككلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.