شعار قسم مدونات

الاعتكاف في الأقصى .. غير

blogs الأقصى

لستُ شيخًا ولا فقيهًا كي أكتب عن فضائل الاعتكاف وأحكامه، ولن أكتب كذلك عن الروحانيّات فيه فهذا شأن بين العبد وربّه وهو به أدرى، ولكن للاعتكاف في مسجد كالمسجد الأقصى بركاتٍ جليلة وعظيمة، غير التفرغ للصلاة وقراءة القرآن، وهي بركات عادة ما نُهملها ولهذا سأكتب عنه هُنا من وحي التجربة!

 

 أولًا: أكثرنا نُدرك ونعقل أننا غارقون في الماديّات، وأن حُب المال والتكاثر والهوس به من الأمراض التي أصابت أكثرنا، وحتى بين المُعتكفين أنفسهم، تجد ثلّة لا بأس بها لا تستطيع أن تترك أعمالها خلال الاعتكاف، وبالتالي فإن الاعتكاف في مكان بعيد يُسهل على المُعتكف نيل قسط من الراحة من الركض وراء أشغاله وأعماله التي لا تنتهي، والأهم أن التراجع عن قرار الاعتكاف لن يكون سهلًا.

 

ثانيًا: ثبت علميًا أن نيل قسط من الراحة من العمل وهمومه يُعيد الإنسان إلى عمله مع طاقة وحيوية أكبر، ومن الجميل في الاعتكاف في الأقصى أنه يجمع المُعتكف بمعتكفين من فئات مختلفة جدًا من المجتمع كالأطباء والمهندسين والإعلاميين وأصحاب الحرف وهو ما يمنح المُعتكف شيئًا من الثقة بقراره في الاعتكاف.

 

ثالثًا: مساحة المسجد الأقصى 144 دونم، فيها كثيرٌ من المساجد والمصليات والقباب والخلوات، بل وهناك أحراش ومصاطب مميزة يُمكن للمعتكف أن يقضي فيها أوقاته كما يحلو له، فيصلي الظهر في قبّة الصخرة إن شاء، والعصر في الأقصى القديم والمغرب في المصلى القبلي والعشاء تحت زيتونة على إحدى مصاطب المسجد، وهذا بحد ذاته يُغني تجربة الاعتكاف بعكس ما يحصل في الاعتكاف في المساجد الصغيرة.

 

رابعًا: هذه المساحات الشاسعة تُعطي المعتكف بُعدًا آخر، وهو الخلوة والابتعاد عن الأنظار، فمن يعتكف في مسجد القرية يعلم جيدًا أنه لو شعر بإرهاق والناس لا تزال تصلي التراويح فقد يُنظر إليه بشيءٍ من الغرابة، ولن يشعر بحريّة تامّة كما هو الحال في الأقصى حين أعداد الناس كبيرة وبالكاد يعرفه أحد أو ينظر إليه، فيصلي متى شاء ويقرأ القران متى شاء وينال قسطًا من الراحة متى شاء.

 

خامسًا: هناك مكتبة في المسجد الأقصى تُدعى المكتبة الختنيّة، تقع في طابق تحت الأرض فيما يُسمى الأقصى القديم، ودرجة الحرارة فيها ممتازة جدًا لقضاء أوقات النهار، كما أنها تحتوي على كُتبٍ في مجالات شتّى، دينية ودنيوية ويُمكن للمعتكف أن يقضي فيها أوقات النهار ويستفيد من اعتكافه في فهم أسئلة تُحيّره أو قضيّة يرغب التوسع فيها، كما أن هناك من يقصد هذه المكتبة لشحن هاتفه النقال!  

 

سادسًا: بطبيعة الحال فإن أعداد المُعتكفين في المسجد الأقصى أكبر منها في غيرها من مساجد فلسطين والأجمل أن الأقصى وفي هذا الوقت من العام يستقبل المصلين والمعتكفين من كُل أنحاء فلسطين، وبالتالي فهي فرصة للتعرف وتوطيد العلاقات وتبادل الخبرات والهموم، وليس هناك أجمل من أن تجلس مع شاب من احدى قرى فلسطين مُنع من دخول القدس، فدخلها بعد أن قفز من فوق الجدار فجُرح وعانى الأمريّن وهو هاربُ من الجنود الصهاينة قبل أن يصل إلى الأقصى، وفي هذا وحده درس بليغ في حُب القدس والأقصى.  

 

سابعًا: مع أن فلسطين مُحتلة ونسبة كبيرة جدًا من المُسلمين يُحرمون من زيارتها إلا أن هناك نسبة تزوره وتعتكف فيه، وأخص بالذكر مُسلمي جنوب أفريقيا وهؤلاء يُشكلون أكبر مجموعة من المُعتكفين وليسوا وحدهم، فهناك المُسلمين الأتراك وهناك المُسلمين القادمين من أوروبا وهؤلاء يستأنسون كثيرًا بالحديث مع أبناء فلسطين ولا بُد أن نُرحب بهم ونؤكد لهم أن الأقصى للمسلمين جميعًا وليس حِكرًا على الفلسطينيين، وهذا غير أن هذه الأجواء واللقاء بمسلمين من بلاد مُختلفة في ساحات المسجد تذكرنا ببركات الحج والتعارف بين الشعوب.

 

للمسجد الأقصى بركات جليلة، فالتواجد فيه وهو قابعٌ تحت الاحتلال رباط، ثم يكفيك أن تقضي يومًا أو ليلة في أقدس بقاع الأرض جميعًا، حيث عُرج بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء

ثامنًا: في الجمعة الأخيرة من رمضان وهي التي تُسمى بالجمعة اليتيمة، يجتمع في المسجد الأقصى خلقٌ كثير، ويأتي الممثلين عن كُل الجماعات الإسلاميّة في فلسطين، من جماعة الدعوة والتبليغ والصوفيّة إلى السلفية إلى حزب التحرير والاخوان وغيرهم وهذه فرصّة للتعرف والاستماع للآخرين وأفكارهم بعيدًا عن فيديوهات "اليوتيوب"!

 

تاسعًا: عند الإفطار وعند المراحيض قد يجد الإنسان ما لا يسره من فوضى وهذه "الأزمات" تؤكد لنا أن المُنغصات والصبر عليها ضرورة من ضروريّات الحياة، وفي الاعتكاف في الاقصى مدرسة على الصبر ومن لا يعرف الصبر لا يُمكن أن يستمتع باعتكافه، فالصبر مطلوبٌ عند الوقوف على الطابور قبل الدخول للمرحاض أوقات الأزمات وهو مطلوبٌ إذا ما لم يتبق للمعتكف طعام يتناوله عند الإفطار.

 

عاشرًا: عند باب المطهرة هناك كُشك صغير يبيع شيء من السحلب والشاي الساخن يبقى مفتوحًا حتى ساعات الفجر وفي هذا الكشك الصغير ملاذٌ لكل معتكف اشتاق لجلسات الشاي والحلوى مع أهله والأصحاب، وليس هناك أجمل من استغلال أوقات "الشاي" في التجوال في ساحات الأقصى ليلًا والتعرف على معالمه، فالمسجد الأقصى يحتوي على حوالي 200 معلم، هذا غير أن تفاصيل قبّة الصخرة وابداع بانيها تتطلب أيام وليالٍ لفهمها والاستماع بها.

 

أخيرًا: للمسجد الأقصى بركات جليلة، فالتواجد فيه وهو قابعٌ تحت الاحتلال رباط، ثم يكفيك أن تقضي يومًا أو ليلة في أقدس بقاع الأرض جميعًا، حيث عُرج بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء وحيث اجتمع بالأنبياء جميعًا، كما أن الركعة فيه تعدل مائتين وخمسين ركعة فيما سواه – كما يُروى -، بل إن النظر إلى سماء بيت المقدس فيها لذّة خاصّة كما قال بشر الحافي: 

 

"ما بقي عندي من لذات الدنيا إلاّ أن أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.