شعار قسم مدونات

في عيدك يا أبي

blogs - الأبوة

هو لا يعرف تاريخ ازدياده بالتدقيق بسبب عدم ضبط تواريخ المواليد المزدادين قبل الاستقلال، ولا يهمه ذلك أصلا، لكنه يصر في كل مرة على الاحتفال بعيد ميلادي كما لو كنت طفلا صغيرا في الخامسة من عمره، بحرصه الشديد على اقتناء الكعكة والهدية الرمزية التي يختارها دوما بعناية.

 

هو لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية، بسبب الظروف الصعبة التي عاشها في طفولته وأجبرته على التخلي عن مقاعد الدراسة مبكرا، لكنه حصل على شهادة تفوق أي دكتوراة : تجربة الحياة، التجربة التي دفعته إلى متابعة مشواري الدراسي، بكل مطباته ومصاعبه، باهتمام مشوب بالقلق بسبب بعض المشاكل التي واكبت هذا المشوار، فكان من الطبيعي أن أرى ملامح سعادة غير طبيعية على محياه يوم حصولي على شهادتي النهائية في الجامعة.

 

هو لا يشتغل محللا في قناة بي إن سبورت، لكنني أرى كرة القدم من منظور آخر كلما تابعت معه مباريات فريقنا المفضل على شاشة التلفاز. فعندما يقول :"ما دام خط وسط برشلونة بهذا السوء، فلن ينفع البارصا هجومه القوي، لا تتوقع شيئا من رجال إنريكي هذا الموسم" أستعد نفسيا لتقبل الأسوء فيما يتعلق بتشجيع فريقنا !

 

هو قد لا يذكر اسم فيلم تابعه في السينما في ستينيات أو سبعينيات القرن الماضي، وربما يتذكر اسم الممثل بصعوبة، لكننا نجد هذه المعلومات بعد بحث طويل عبر شبكة الأنترنت، ثم نتابع الفيلم سوية فأكتشف في كل مرة أي ذوق سينمائي رفيع يملكه.

 

هو لم يدرس أو يتخصص أبدا في العلوم السياسية أو غيرها، لكنني عندما أسمع منه تحليلا مستفيضا لما يجري ويدور في المنطقة من تقلبات وتغيرات ميدانية وجيو استراتيجية، أنتبه وأستفيد من كل كلمة يقولها، ولا أجدني بحاجة للاستماع للخبير الفلاني أو المحلل العلاني ممن تعج بهم مختلف القنوات الإخبارية العربية.

 

هو لا يعرف معنى التنمية البشرية، ولم يسمع بإبراهيم الفقي ولم يقرأ له أبدا، لكنه قال لي يوما : "أنا أثق بك وبقدراتك أكثر مما تثق أنت بنفسك، كن صبورا، وستنال ما تريد بإذن الله."

 

هو لا يعرف شيئا عن المدارس النقدية في الأدب، لكنه قال لي بالحرف الواحد يوم رآني أقرأ كتابا عن تقنيات الكتابة الروائية : "احتفظ بأسلوبك العفوي السلس الجميل، ولا تشغل أو تفرض على نفسك الكتابة بأسلوب لا تحبه، واكتب ولا تعبر سوى عن الأفكار التي تؤمن بها، لا تتبع الموجة السائدة إرضاء للآخرين."

 

أعلم بأنه لم يسمع في حياته بعيد الأب، وربما سيسخر مني على طريقته إن أنا حدثته عن هذه الذكرى، لكنني لا أجد أي حرج في قولها بكل افتخار واعتزاز: "في عيدك يا أبي، كل عام وأنت بخير".

هو لا يقرأ بشكل مستمر بسبب ضغط العمل وضيق الوقت، وبدأ في التعرف مؤخرا على أسماء دوستويفسكي ومنيف ومحفوظ وفيرجيل جيورجيو وكافكا وماركيز وكونديرا وغيرهم عن طريقي، أنا الذي أكررها على مسامعه في اليوم ألف مرة، لكنه كان أول قارئ لمسودة روايتي الجديدة، ولن أنسى أبدا موقفه عندما لمح علامات الترقب والخوف على محياي، بسبب استعدادي لمراسلة عدد من دور النشر العربية لعرض روايتي، يومها أجابني بابتسامة عريضة :"سأحدثك كقارئ محايد لا كأب متعاطف، روايتك هذه جميلة جدا، وإن رفضتها دار النشر الفلانية التي تحلم بها فأنا متأكد بأن العيب سيكون فيها هي، لا فيك أنت !"

 

هو على مشارف السبعين (أو ربما تجاوزها لسنا متأكدين بالضبط)، وأنا بعد في الثامنة والعشرين، لكنني لم أشعر يوما بفارق في السن أو الأفكار، فأنا أعتبره صديقي كما يعتبرني هو صديقه، نتشارك الهموم والأفراح، نتبادل النكات والدعابات، نشجع فريقنا المفضل، نمارس "جنوننا" الخاص على طريقتنا.

 

هو ملهمي وسندي ومثلي الأعلى في هذه الحياة الفانية…

 

أعلم بأنه لم يسمع في حياته بعيد الأب، وربما سيسخر مني على طريقته إن أنا حدثته عن هذه الذكرى، لكنني لا أجد أي حرج في قولها بكل افتخار واعتزاز :

 

"في عيدك يا أبي، كل عام وأنت بخير…"

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.