شعار قسم مدونات

بين عبق الشام ورائحة الدم

blogs - دمشق دمار
عند التجول في حاراتها القديمة ترى وسطها المسجد الأموي وعلى جانبه بعضا من أجمل الكنائس في الشرق، تعطيك نفحة روحانية بمجرد المسير في شوارعها القديمة الضيقة، التي يطغى عليها الياسمين مكونا ظلالا على جوانبها.

هناك تعلو أصوات المقاهي، و رائحة الأكلات الحلبية، وبين هذه الزحمة يناديك بائع الكتب من هناك، لشراء كتبٍ تشتم بداخلها عبق الشام و زهر النرجس وصوت الأذان وأجراس الكنائس. 
لرائحة الأسواق حكاية أخرى من بهارات وعطور وحمام يرفرف بسلام على صوت الماء المتدفق من الحمامات الشامية التي تعتبر آية في الفن المعماري بفخامة بنائها وتزينها، التي لا تقل جمالا عن البيوت الشامية وسحر حارتها.

ما هي إلا ساعات وغابت الشمس وتبدل الحال، مظاهرة في "درعا" تنادي بالحرية تحولت إلى حربٍ غبراء تفتك في كل شيء أمامها فتغيرت الرائحة المعتادة، العطر بالغاز، والأصوات الشجية كالقدود الحلبية بالانفجارات، حتى رائحة الدم اختفت، وباتت الجثث ممددة في نومها الأبدي على رائحة "السارين".

بالإعدامات الجماعية والفردية، أو عن طريق الأسلحة الكيمائية والتدمير والتهجير القسري، أصبحت الشام مضرب المثل في انتهاك حقوق الإنسان بعد أن صنعت تاريخ هذا الإنسان.

ما نراه الآن هو أقل لحظاتهم ألماً، ففي الشام فقط يُطبق الفتية الكيمياء في الشارع بدلاً من المعمل، يطبقوه عنةً أو فلنقل يُطبق عليهم، يذهبون إلى النهاية قبل أن يهموا بالبداية. وبالنسبة لبائع الكتب فتحول لبيع أدوية من كل الأنواع ولكل الأمراض ربما نهبت أو أُخذت من أحد المستشفيات المُهدمة أو العيادات التي باتت بلا زوار، وطالبات الطب والقانون أصبحن سبايا للجهات المتنازعة، والأسواق القديمة أصبحت سجونا ربما حتى أصوات الإنفجارات اختفت واستبدلت بأسلحة تقتل بصمت كما العالم الذي يترقب كل هذه الإحداث ويكتفي بان يعرب عن قلقه.

وعن الانتهاكات القانونية حدث ولا حرج، ففي الشام تنوعت بين جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كل أنواع الجرائم حضرت، ابتداءَ من نتف الشعر وخلع الأظافر وانتزاع اللحم بملاقط معدنية، مرورا بالحرق بمواد حمضية وإلقاء براميل TNT، انتهاءً بالقتل بطرق مختلفة.

الإعدامات الجماعية والفردية، أو عن طريق الأسلحة الكيمائية والتدمير والتهجير القسري، باختصار أصبحت الشام مضرب المثل في انتهاك حقوق الإنسان بعد أن صنعت تاريخ هذا الإنسان. حضرت الجرائم هنا وغابت المحاكم، فالمحكمة الجنائية الدولية تعتبر مرجعاً هاماً في المحاكمة على الجرائم المرتكبة في هذه الحرب، لكن عدم انضمام سورية إلى "اتفاقية روما" يؤدي إلى تعطيل صلاحية المحكمة، بالتالي يجب سوق مرتكبي هذه الانتهاكات إلى المحكمة عن طريق مجلس الأمن الدولي، وفق صلاحيات هذا المجلس بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

في الشام فقط يُطبق الفتية الكيمياء في الشارع بدلاً من المعمل، يطبقوه عنةً أو فلنقل يُطبق عليهم، يذهبون إلى النهاية قبل أن يهمون بالبداية.

المأساة لم تتوقف هنا، إنما سرت معهم كاللعنة أينما حلوا، ففي المهجر بعد رحلة شاقة وصلوا لموت أخر ينتظرهم، هم باتوا يهربون من الموت إلى الموت، منهم من وصل بلا عائلة، وهنا بدأ تسارع الأرقام من المخبرة عن عشرات قضوا نحبهم في الغارات إلى عشرات لحقوا بهم غرقاً، وعن مئات من المصابين يصارعون حالات التسمم والاختناق إلى مئات أصابتهم حمم الحقد أثناء التهجير، وعن لائحة ضحايا ترتفع بشكل متسارع.

هكذا تذوب الصور شيئا فشيئا كأنها أغنية وطنية أو مشهدا من هوليوود تنتهي بتحليل سياسي أو مفاوضات على طاولة مستديرة، إنه باختصار مشهد مكرر لمأساة واحدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.