شعار قسم مدونات

فلنقل خيرا أو لنصمت

مدونات، الرأي
الكل يغرد من دلوك الشمس إلى غسق الليل، الكل يلقي محاضرات عن الأخلاق وفن التعايش والتسامح وتقبل جميع الآراء والاختلافات؛ فلطالما علمتنا مدارسنا أن نحفظ القواعد والدروس النظرية وبعض المفاهيم التي نبتت في أرض غير أرضنا واجتثت من جذورها اجتثاثا لتزرع من جديد في أوطاننا. لكن سرعان ما يخرج من صلب تفاهاتنا حدث يسقط القناع الهادئ الجميل ليظهر جليا وجه شاحب بأنياب دراكولا المتعطشة لسفك كرامة الآخرين وامتصاص ما تبقى لديهم من عزيمة للوقوف من جديد. 
أشفق علينا حين أقرأ تعليقات دولتين شقيقتين تقصفان بعضهما سبا وشتما بعد مباراة كرة قدم أو برنامج مواهب. الأولى تتهم الثانية بأنها دولة عهر ورقص وخمور، والثانية تحذف الأولى بكلمات جارحة عن كونها منبع السحر والشعوذة، وتضيف مستدلة على كلامها  بزواج مواطناتها من ممثلين ومغنيين من جنسيات أخرى.. ولا برهنة طاليس وفيتاغورس!  

ألعنة أصابتنا أم خدرت عقولنا شاشات هواتفنا المحمولة؟ الأمر هنا ليس متعلقا لا بتدخل دونالد ترمب ولا بمؤامرات الماسونية ولا حتى بوساوس الشيطان الذي أتخيله يقف مذهولا حاملا مذكرة يدون فيها ما تعلمه من آخر صيحات الأشكال الاستفزازية والألفاظ النابية الجارحة بسبب كرة يملؤها الهواء أو اختلاف ثقافي أو ديني بسيط. أدمغة يكسوها غبار وتتخذها البلادة عشا آمنا مريحا.

ليتنا تعلمنا أن نطرق أبواب من نحبهم أو من نكرههم بدل تكسيرها وتحطيم معنوياتهم وتسمية ذلك نصحا. ليت ثقب النور يلفت انتباهنا أكثر من عتمة الغرفة التي سجنا أنفسنا فيها.

من السهل جدا أن يتحول الإنسان إلى ناقد يدعي النبوة والمثالية في خطاباته فيرشق بيوت الآخرين  بالحجارة، في حين أن بيته من زجاج!عفوا فقد لا يملك بيتا ولا حتى ثمن الفنجان الذي يشربه في المقهى، حيث يمضي نصف عمره باحثا عن وايفاي لينتهي به الأمر بطواف حول صفحات شبه سياسية أو صفحات فنانين أو رياضيين أو غيرهم من مثيري الجدل!

كم هو محزن أن نقتات من فضائح الآخرين أو جرائمهم قبل الحذف! كم هو محزن أن نؤذي أناسا لا نعرفهم حتى، بمجرد أن أذواقهم تختلف عن أذواقنا. كم هو محزن أن نغفل عن عيوبنا وندعو الله سرا أن يسترها في حين أن هوايتنا المفضلة هي فضح الخلق وتعرية ماضيهم وأجسادهم وتحطيم أمانيهم ومعتقداتهم وإغلاق أبواب التوبة في وجوههم وكأننا خزنتها!

ليتنا تعلمنا أن نطرق أبواب من نحبهم أو من نكرههم بدل تكسيرها وتحطيم معنوياتهم وتسمية ذلك نصحا. ليت ثقب النور يلفت انتباهنا أكثر من عتمة الغرفة التي سجنا أنفسنا فيها. ليتنا نطرد الفظ غليظ القلب الذي يسكننا فينفض العالم من حولنا كما لو كنا أرواحا شريرة مغضوبا عليها!

في كل مرة أرى فيها قلة نضجنا وتسرعنا ونظرتنا السوداوية لما حولنا تزهر من جديد قصة نبينا الكريم مع أبي محذورة، ذلك الشاب ذو الستة عشرة سنة الذي استهزأ  بالآذان وهو برفقة أصحاب له. أتصور كيف كانت مواقع التواصل لتتحول إلى ساحة حرب لو حدث أمر مماثل  في عصرنا هذا! لكانت كلماتنا تتفجر كسيارات مفخخة ولأدان  الجميع الشاب الطائش بشكل قد يزيد من بغضه فيكون مبررا قويا ليفجر نفسه وسط المصلين. لو فعلها في يومنا هذا لقطع رأسه أو رجم أو اعتقل، ولكن في عصرهم سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر به فلبى الفتى نداءه وهو  يرتجف خوفا ويحسب أن نهايته أوشكت. لكن ما كان من سيد الخلق إلا أن تبسم في وجهه  ومسح ناصيته وصدره وأعرب له عن إعجابه بحسن صوته وعلمه الآذان، فكان مؤذنهم حتى مات. جميل على خلق عظيم جدبه الجمال جدبا. أما نحن فكالذباب قد لا يجدبنا شيء غير رائحة الموت ووجه البشاعة.

لتجدن أن أكثر الناس عداء لبغي جهرا أولئك الذين عاشروها سرا! لتجدن أن أكثر الناس مطالبة بحقوق الإنسان أولئك الذين يبصقون ليل نهار في وجوه خادميهم والمستضعفين في الأرض.

كم من مومس أرغمها من يطلقون الأحكام على البقاء مومسا، كم من مذنب جلدناه بكلمات تأثيرها أشد وقعا من ضربة السيف ورفضنا توبته بكل عجرفة، وكأننا معصومون من كل الآثام. كم من ميت قتلناه مرات بحديثنا السام عن سوء خاتمته لأن نبضات قلبه توقفت خلال تفجير إرهابي بملهى ليلي أو في محطة قطار. نجلس على عرشنا بكثير من العجرفة: حلال، حرام، شهيد، انتحاري، إرهابي، مجاهد، مومس، عفيفة، متبرجة، محجبة..

لم نتعلم شيئا من رحمة أبي القاسم الذي تمنى في قرارة نفسه أن ترجع الغامدية، وقبلها ماعز بن مالك، عن كلامها بعد أن أخبرته بأنها زنت وترغب في التطهر والتوبة! لتجدن أن أول الناس ذما لتارك الصلاة أولئك الذين بالكاد صلوا الصبح بعد انقطاع دام أشهرا! لتجدن أن أكثر الناس عداء لبغي جهرا أولئك الذين عاشروها سرا! لتجدن أن أكثر الناس مطالبة بحقوق الإنسان أولئك الذين يبصقون ليل نهار في وجوه خادميهم والمستضعفين في الأرض. بينما سيكتفي من يقبع في "شبر مية" بالسباحة وحيدا ظنا منه بأنه يملك سر الكون، سينثر هؤلاء الذين ألفوا ركوب أمواج محيط العشق الإلهي السرمدي العذب عبق تجربتهم الروحية في كل أرجاء العالم لعلمهم بأنه يسع الناس جميعا ليذكرونا بأن الآثم قد يصبح في أي لحظة قديسا وأن القديس قد يتحول في أي لحظة إلى شيطان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.