شعار قسم مدونات

كأنه لم يكن

blogs - طفل رضيع

-١-
قال لي في معرض التخفيف عني والعزاء "يمكنك أن تعتبريه وكأنه لم يكن"، كان هذا في سياق الحديث عن ابني أيوب، ولد طفلًا خديجًا في الأسبوع الـ ٢٤ وبوزن ٣٠٠ جرام فقط، عاش بعدها عشرة أيام ثم توفي.. أشغل نفسي طوال الوقت بالبحث عن جواب لسؤال المعنى والقيمة والوجود، أعتبرها فتنة لي بشكل أو بآخر لا يعينني عليها غير استدعاء الدين وأن القيمة كثيرًا ما تكون في الآخرة، وأن ما نزرعه هنا قد لا نجد له أثرًا في الدنيا، قد يفني آل الأخدود جميعًا، ولكن الله يخبرنا في سورة البروج أنهم الفائزون والمنتصرون.. عندما أفكر بذلك تتغير قيمة الناس عندي، فأتحرر..

-٢-
حلمت عدة مرات أنني أصرخ بلا صوت، وأن شيئًا رهيبًا يحدث ولا يمكنني إلا أن أصرخ ولكن صوتي لا يخرج، إذا حلمت بهذا الحلم فإني أستيقظ بمزاج عكر، أشعر بالألم وربما أبكي، وأقضي يومًا كاملًا على الأقل في ألم شديد.. ربما كان الصراخ من رحمة الله بالمتألمين، يخرجون آلامهم وأحزانهم في الصراخ، حتى لو لم يستفد منه بشكل مباشر ولكنه الأمل في الفرج.. لا أعرف ولا أجزم بشيء ولكني أظن أن الصراخ بلا صوت شيء مؤلم جدًا. يشمل هذا الصراخ الصراخ الفعلي وربما الأفعال الحمقاء والعدوانية وربما الكلمات الجارحة.. المهم أن ندرك كيف نصرخ فنصرخ بدون أن نؤذي من نحب.

-٣-
المرة الثانية التي رأيت فيها أيوب، رفعت فيها ستار الحضانة، لأجده يبكي ويصرخ بلا صوت، سقط قلبي بين قدمي ويئست ربما لم تكن هناك أحبال صوتية تكفي ليسمع من هم خارج الحضانة بكاءه، وإن سمعوه فلا شيء يفعل، كان هذا أقسى منظر مر علي في حياتي، كل ما تذكرته بكيت وكأن هذا المنظر جرح لا يندمل، يعاودني سؤال المعنى والجدوى والقيمة، وعن معاناة طفل صغير لكل هذا الألم وحيدًا بلا أم حتى تحتضنه أو تضمه لصدرها.. وتفرغ الإجابات عني..

لست الوحيدة وليست حالتنا حالة فريدة، ولكننا نحن من شعرنا بالألم، وتساءلنا ورجونا وكشطت قلوبنا وظلت بلا ضمادة، هذا حقي وحقنا في الألم، وإذا كان من حقنا الألم فمن حقنا أن نعبر عنه، وأما الحديث عن الحق في الألم فله حديث طويل آخر.

-٤-
لا أعرف إن كنت أخفف عن نفسي بالبحث عن المعنى والقيمة في كل شيء حتى لا أجن، ولكني أعرف أن شيئًا جميًلا قد حدث، وأن أيوب كان مستمتكًا بالحياة أكثر من أمه، إذ لو أنني عانيت بنفس الطريقة وظللت عشر أيام في صندوق زجاجي أصرخ بلا صوت وبلا أحد بجواري لمددت يدي ونزعت عن نفسي كل شيء يمدني بالحياة، ولد وكان له اسم وعاش حياة قصيرة مملوءة بالألم وأحاطه الأمل من أمه وأبيه وجدتيه وجده وأخواله وخالاته وعمه والآلاف الذين سمعوا قصته، ربما لم يعرف في حياته القصيرة سوى الألم، ربما لم تتسنى له فرصة لارتداء ثوب جميل ناعم أو أن يغطى بقماش يليق، لم يحظ بفرصة لتشفى أوردته أو حتى أن تمسك أمه يديه وهو يتلقى بعض الآلام الحتمية.. أقول إنه كان مستمسكًا بالحياة والحقيقة أني لا أعرف إن كان فعلًا مستمسكًا بالحياة؟ أم أنه كان مجبرًا عليها؟ ولكن إذا عاش عشرة أيام وعانى فيها كل هذه المعاناة فلا معنى لاعتباره "لم يكن"..بل كان وصمد وأمسك بأذني دبدوب صغير وضع بجانبه..

-٥-
يقول لي البعض إن طفلي ليس هو الطفل الوحيد، هناك عشرات فقدوا أطفالهم، حتى شعرت بالحرج من الكتابة وتوقفت طويًلا لأني لا أستطيع أن أكتب عن شيء آخر، تختلط المعاني وتختفي الكلمات ولا أشعر سوى بالغصة تعتريني.. أقول نعم، لست الوحيدة وليست حالتنا حالة فريدة، ولكننا نحن من شعرنا بالألم، وتساءلنا ورجونا وكشطت قلوبنا وظلت بلا ضمادة، هذا حقي وحقنا في الألم، وإذا كان من حقنا الألم فمن حقنا أن نعبر عنه، وأما الحديث عن الحق في الألم فله حديث طويل آخر..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.