شعار قسم مدونات

عاصفة الحزم.. من السياسة إلى العقيدة

مدونات - الهاشمية
كان لا بد من تدخل ما، خارجي. فليس من حق عصابة طائفية أن تسيطر على الدولة وتخضع الناس لإرادتها ونظامها. ذلك ما فعلته "داعش" في العراق وسوريا، وهو ما استدعى تحالفاً عسكرياً دولياً. كانت الصورة نفسها في اليمن، بفارق وحيد: فقد خص الحوثي اليمنيين بكل العنف، ومد يد السلام إلى باقي العالم. كانت داعش أقل فطنة منه، فما إن تسيطر على منطقة حتى تحولها إلى معكسر لتدريب الانتحاريين الذين سيقومون بمهام خارج الحدود. 

خلط الحوثيون أوراق اللعب في الجزيرة العربية. مع سقوط صنعاء، وفتح أبواب اليمن أمام الكولونيالية الإيرانية الحديثة، دب الفزع في العربية السعودية. فقد شوهد الحوثي وهو يجري مناورة عسكرية بالسلاح الثقيل على حدود السعودية، وبهندسة إيرانية، كما يُظن.

مبدئياً من حق اليمن، واليمنيين، أن يهب المجتمع الدولي لإنقاذهم من عصابات طائفية فتحت باباً لحرب أهلية مستدامة، ونسفت الدولة من جذورها. أتاح قرار مجلس الأمن تحت الفصل السابع الفرصة لتدخل عسكري دولي لم يحدد ملامحه ولا طبيعته. بالمثل، انطلق الجيش العراقي مسنوداً بتحالف دولي واسع ليحرر الأراضي العراقية من القبضة الوحشية لداعش. صورة مماثلة حدثت في اليمن. وفي حين يبدو حلفاء الجيش العراقي، وفي مقدمتهم أميركا، وقد عقدوا العزم على تقويض دولة داعش، يبدو حلفاء الجيش اليمني من العرب مترددين وتائهين، ومتناقضين.

تقول المادة الخامسة من الدستور اليمني إن النظام الجمهوري يقوم على النظام الحزبي. فلا جمهورية في غياب الأحزاب. في الجنوب تعمل الإمارات، عبر البروكسي الميليشوي الذي شكلته، على القضاء على النظام الحزبي وتطويع الساحة لصالح ميليشيات دينية مرتهنة إدارياً ومالياً للأجهزة الإماراتية.

كان الحوثي يشكل خطراً حقيقياً على الدولة والسلم الأهلي عندما قال السفير السعودي لدى اليمن إن السعودية لا ترى الحوثي خطراً. مع اقتراب الحوثي من صنعاء توجست العربية السعودية لكن الإمارات، بحسب مصادر إعلامية حوثية، حاولت تهدئة روع الأولى، وبذلت جهداً ملحوظاً لتقريب الطرفين من بعضهما: السعودية والحوثيين. لكن الحوثي لم يكن سوى نصف القصة، فهناك نصف آخر وهو منظومة صالح القبلية والعسكرية، وتلك لها خارطتها وطموحها. ومن الخلف كانت إيران تقف بكل بأسها. سقطت صنعاء، وسرعان ما سقط باقي اليمن، وانهارت مقولة وزير الخارجية الأسبق، رياض ياسين "إننا نعيش في زمن لم يعد سقوط العاصمة فيه يعني سقوط الدولة". الحشود العسكرية الحوثية وهي تقتحم عدن، مزودة بآلة دعائية إيرانية فتاكة، داست على الأعصاب العارية للعربية السعودية. حتى إن عمدة طهران، أحد أنشط رجال مرشد الثورة الإسلامية، لم يتمكن من السيطرة على مشاعرة فأعلن سقوط العاصمة العربية الرابعة في قبضة دولته.

حدثت عاصفة الحزم في تلك الظروف، في السادس والعشرين من مارس ٢٠١٥، ولا تزال تحدث وتتعثر، وتصير يوماً بعد يوم لعنة. فهناك ميل على الأرض لتأسيس دولة صغيرة على طريقة صومالي لاند، على أن تكون هذه المكيرودولة منزوعة السيادة، وتقع الحرب على أطرافها باستمرار، وبطريقة تجعل من احتياج الميكرودولة للخارج أبدياً. فالإمارات التي تتواجد بآلتها العسكرية في صومالي لاند لا تأبه بالمرة لمشروع دولة الصومال الذي صار جزءاً من الماضي، بل لوضعها ك"أسبرطة جديدة"، بحسب وصف وزير الدفاع الأميركي السابق.

خسرت السعودية الحرب في سوريا، وتعثرت حرب الإمارات في ليبيا، وترنحت حرب الدولتين في اليمن. فالسعودية تريد هزيمة البروكسي الإيراني، وهذا ما يفسر حضورها في شمال اليمن. بينما تسعى الإمارات للحصول على مزيد من البحار والموانئ، وفي طريقها للحصول على ذلك تسعى لإخضاع السكان لها بالكامل. تفعل ذلك عن طريق دعم القوى المحلية الطموحة التي تقبل المُناورة في مسألتي السيادة والاستقلال. في شمال اليمن يصطف حزب الإصلاح إلى جوار الجيش السعودي، وفي جنوب اليمن يتحول الإصلاح إلى شيطان، بعد أن كان رفيق سلاح.

تناقض المصالح والغايات بين الدولتين، السعودية والإمارات، تسبب في تعثر حرب اليمن. لنتذكر أن عاصفة الحزم كانت الصافرة التي أراد محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، أن يدشن بها حضوره الدولي. الاستعاضة عن تعثر الحرب في اليمن بطرد إبل قطر من الصحراء السعودية ليست مخرجاً ذكياً، ولا كافياً. مؤخراً أصدر مجلس الأمن بياناً جديداً أكد من خلاله التزامه الدائم بالحفاظ على وحدة الأراضي اليمنية. كان ذلك التزاماً خليجياً أيضاً، لكنه مؤخراً أصبح سؤالاً خليجياً أكثر منه التزاماً.

توجد إيران على الأبواب، وستدخل بكل جهوزيتها ما إن تدير السعودية ظهرها لليمن، أو تصاب بالضجر. لم تستثمر إيران شيئاً يذكر، حتى الآن، في حرب اليمن. ربما لا تزال توفر استثمارها للحظة التي ستكون فيها السعودية عاجزة كلياً أو جزئياً عن تزويد الحرب اليمنية بما تحتاجه من المال والسمعة الدولية. ثمة أرض واسعة صارت، نظرياً، في حوزة الشرعية، وعملياً خارج نطاق السيطرة الميدانية للميليشيات الحوثية. لا يبدي التحالف العربي اهتماماً كثيراً لحضور الدولة في تلك المناطق، وأكثر من ذلك يضمر شراً لفكرة عودة الدولة، كما يجري في حضرموت. ففي حضرموت يتوعد قادة عسكريون مدعومون إماراتياً المنطقة العسكرية الأولى التي تتبع القوات المسلحة الموالية للشرعية. ولا يكف محافظ حضرموت عن كيل التهديدات للحكومة الشرعية. بصرف النظر عن الموقف الشعبي في حضرموت، فنحن هنا بصدد نقد موقف التحالف العربي الذي أخذ تفويضاً دولياً لخوض الحرب في اليمن دفاعاً عن وحدة الأراضي اليمنية، ونظامها الجمهوري.

تمثل السعودية أيقونة للعلمانية الحديثة غير الديموقراطية، أي تلك التي لا يحضر اللاهوت في شؤونها السياسية ولا يترك أثرا. هذا اللون من العقيدة العلمانية هو المشروع الإماراتي الجديد في جنوب اليمن، على أن تُشَكل العقيدة استناداً إلى التجربة السعودية.

تقول المادة الخامسة من الدستور اليمني إن النظام الجمهوري يقوم على النظام الحزبي. فلا جمهورية في غياب الأحزاب. في الجنوب تعمل الإمارات، عبر البروكسي الميليشوي الذي شكلته، على القضاء على النظام الحزبي وتطويع الساحة لصالح ميليشيات دينية مرتهنة إدارياً ومالياً للأجهزة الإماراتية. في العام ٢٠١٥ قال عيدروس الزبيدي، رجل الإمارات في الجنوب، إن مهمته الأساسية تكمن في الدفاع عن شرع الله، والوقوف في وجه من يعتدي على العقيدة. تستعيض الإمارات عن فكرة السياسة بالعقيدة. يمكن للإمارات التحكم بالعقيدة، وخدمتها، واختيار أناس بعينهم لخدمتها. لكن السياسة مائعة ومراوغة ولا يمكن لأحد التحكم بها أو التنبؤ بحركتها. التجربة السعودية هي المثل الأكثر بروزاً.

ففي البيان الأخير لهيئة كبار العلماء حضرت العقيدة كنقيض للسياسة، ومقابل موضوعي لها. فقد اعتبر البيان جماعة الإخوان المسلمين ضالة لأنها "حزبية"، تختار السياسة في سبيل الحكم. وللتوضيح قال البيان إن الإخوان المسلمين لا يعنون بالعقيدة، ولا يقدرونها، ولذا فهم جماعة "ليست على الطريق الصحيح". الانشغال بالسياسة يأتي على أنقاض العقيدة، يقول بيان هيئة كبار العلماء. فالمؤمن الصادق، والجماعة المؤمنة، عليها الانصراف إلى العقيدة وتربيتها، على أن تبقى السياسة "لقيصر"، والعقيدة لله. تمثل السعودية أيقونة للعلمانية الحديثة غير الديموقراطية، أي تلك التي لا يحضر اللاهوت في شؤونها السياسية ولا يترك أثرا. هذا اللون من العقيدة العلمانية هو المشروع الإماراتي الجديد في جنوب اليمن، على أن تُشَكل العقيدة استناداً إلى التجربة السعودية.

في تعز يعمل التحالف العربي على إخضاع المقاومة الشعبية للمقاومة السلفية. فالمقاومة الشعبية، وتشكل الأحزاب جزءاً منها، قدمت خلال العامين الماضيين جملة سياسية حديثة ورفيعة، وحددت طبيعة المعركة بوصفها استعادة شاملة للحرية الشاملة. على الجهة الشرقية كان السلفيون يقاتلون دفاعاً عن "عرض النبي". مرة أخرى اختار التحالف العربي العقيدة، ودفعها لتلتهم السياسة، وتقصيها. في النهاية تسلم العقيدة نفسها لولي الأمر، وتحرسه بالوحشية التي يُريدها. وتلك من غايات التحالف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.