شعار قسم مدونات

هيّا بنا نحرق كتب التراث

blogs - كتب قديمة

ليس كحرق إمام الأدب أبي حيّان التوحيدي لكتبه "لقلّة جدواها وضنّا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته" كما قال في رسالته إلى القاضي أبي سهل. ولا كحرق إمام العربية أبي عمرو بن العلاء لكتبه التي ملأت بيته حتى السقف فتنسّك وحرقها. ولا كحرق أبي سليمان الداراني الذي "جمع كتبه في تنّور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك"! كلا.. إنّه حرقٌ من نوع آخر، إنّه حرق العبيد الغارقين في التبعيّة لِما لا يعرفون قدره، كالسائمة التي تأكل صحائف العلم؛ فلا هي انتفعت بما فيها ولا أبقتْ عليها لينتفع بها من يقرؤها!

تنطلق من حين لآخر صرخات موغلة في الجهل تنادي بتجاوز كتب التراث، وتحديدًا كتب السنة والعلوم الشرعية بمختلف مجالاتها، واللحاق بركب العلم. يقولون: "لقد حفظ الله بين أيدينا كتابه الكريم، ولدينا العلوم الحديثة المتطوّرة، فما حاجتنا لشيء غيرها لنهتدي ونقيم حياتنا؟ بإمكاننا أن نتوجه إلى القرآن مباشرة دون الاستعانة بشيء من كتب التراث الديني المليئة بالغثّ، ونحن نمتلك اليوم أدوات قراءة أكثر تطوّرا من السابق". وهي مقولة مشحونة بقدر هائل من الجهل وخفّة العقل، إذ لا يصدر هذا الكلام عن عارف بأحوال الأمم وتواريخها، وبدين الإسلام وطبيعته، وبطبيعة هذه العلوم التي نقلها لنا السلف.

نحن لا ننفي امتلاء هذا التراث عبر القرون بالغثّ وبالانحرافات الكثيرة، كالجدل الفارغ الذي أحدثه علم الكلام والفلسفة، وكترّهات بعض المتصوّفة وشطحاتهم وغلوّهم، وغير ذلك مما حدث لأسباب كثيرة يصعب حصرها هنا. ولكن وجود هذا الكم الكبير من الانحرافات ضمن كتب التراث لا يعني نبذها عن آخرها.

هل يمكننا الاستغناء عن التراث لفهم القرآن؟
تعالوا بنا نجرّد هذا الراغب بفهم القرآن لوحده من كل عناصر "التراث" الذي يدعو إلى نبذه وحرقه. ولنبدأ بعلوم العربية؛ كاللغة والنحو، فهل يعلم من يدعو إلى نبذ كتب التراث أنّه يتحدث اليوم لغة لا تكاد تشبه لغة العرب التي نزل بها القرآن في شيء؟ وهل يعلم أن الأدوات التي سيستخدمها في فهم كتاب الله منقولة لنا في هذا التراث الذي يدعو إلى حرقه، وأنّ من نقلها هم أئمة العربية وأئمة الدين؟ فمن أين له بمعرفة معاني مفردات القرآن وحدها؟ وكيف سيعرف وظائف الحروف المختلفة وإعراب الكلمات بحسب مواضعها في الجملة؟ ومن ذا الذي اعتنى هذه العناية الفائقة بالنصّ القرآني فوضع له الشكل وكل ما يخدم النصّ ليعرف صاحب هذه الدعوى قراءته؟! بل كيف كان يمكن أن يتلو القرآن (ولا أقول يفهمه!) لولا علوم القراءات التي حفظها السلف جيلا بعد جيل وقيّدوها بكتب التراث ونقلتْها صدور الحفظة؟ إنّ كل علوم العربية هذه وما يدور حولها لم تكن لتصل إلى صاحب هذه الدعوى ليمارس تأويلاته المعاصرة على النصّ القرآني لولا حفظها في كتب التراث التي يدعو إلى تجاوزها!

ولننتقل الآن إلى سائر علوم القرآن، ومنها علم التفسير، وما يحمله من روايات أهمها المروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وروايات أسباب نزول الآيات، وما نُقل عن الصحابة ومن بعدهم من التابعين.. كيف يمكن فهم ذلك القرآن، الذي وصفه علي عزّت بيجوفيتش بحقّ بأنّه "حياة"، كيف يمكن فهمه دون حفظ السياق الذي نزل فيه؟ فإن كان صاحب دعوة تجاوزِ التراث يستعين بتلك المرويّات المنقولة في التراث لفهم القرآن، ثم يزعم أنّه مستغنٍ عنها؛ فهذه والله فضيحة علمية لا يُقدم عليها إلا جاهل بأبجديّات العلم!

ولعلّنا ننظر الآن إلى حال هذا الدعيّ، بعد أن جرّدناه من علوم العربية وعلوم القرآن التي نقلها لنا التراث، أليس حاله أشبه بالعجماء تقف أمام نصّ مستغلق على فهمها؟ بلى إنّه كذلك، وهو غير قادر على فهم كلمة واحدة من كتاب الله بدون ذلك التراث!

ثم إنّ من ضمن التراث الذي يدعو بعض الجهّال إلى نبذه "السنة النبوية الشريفة"، فيقول قائلهم: "إنّ السنة باتت مُعيقة لنا عن التقدّم". فما علاقة التقدّم والتأخر بالسنة؟ ألم يكن العصر الذهبي الإسلامي هو عصر الذروة في جمع وتدوين السنة النبوية؟ أم يُحيل هؤلاء فشلهم إلى التراث الذي يريدون التخلّص منه؟! ولا أريد التفصيل كثيرا في حاجتنا الأساسية للسنة ليس لفهم القرآن فحسب، بل لنقيم ديننا ونعمل به، فقد فصّلتُ ذلك في تدوينتي الأولى في مدونات الجزيرة تحت عنوان "القرآن وحده لا يكفي"، وطرحت هناك ثلاثة مستويات من الحجاج مع منكري حجّية السنة.

النصّ القرآني عبارة عن حياة متكاملة، وليس نصّا فلسفيّا أو قانونيّا حتى يكون الرجوع إليه وتحليله كافيا – دون الاستعانة بأي سياق آخر – لفهمه، بل هذا لا يمكن في حالة النصّ الفلسفي أو القانوني أيضا. وإنّما هو نصّ هداية وتزكية وتربية ودعوة وأحكام وحياة كاملة.

إنّ هؤلاء الذين يزعمون أنّهم يريدون "القفز" إلى النبع الأصيل المتمثّل بكتاب الله، ونبذ كل ما في تلك القرون من تراث، إنما يبحثون عن "سراب"، وستوصلهم قفزتهم تلك – لو صدقوا في مزاعم نبذ التراث عن آخره – إلى شيء لا علاقة له بدين الله. وهم حين يمارسون تأويلهم بمعزل عن مرويّات السنة والصحابة والتابعين وسائر علماء الأمة العدول، فهم إنّما يؤلّفون دينًا جديدا، هو عبارة عن إسقاطاتهم المعاصرة وقل إن شئت "أهواءهم"، ولكنه شيء أبعد ما يكون عمّا نزل على محمّد صلى الله عليه وسلّم!

ونحن لا ننفي امتلاء هذا التراث عبر القرون بالغثّ وبالانحرافات الكثيرة، كالجدل الفارغ الذي أحدثه علم الكلام والفلسفة، وكترّهات بعض المتصوّفة وشطحاتهم وغلوّهم، وغير ذلك مما حدث لأسباب كثيرة يصعب حصرها هنا. ولكن وجود هذا الكم الكبير من الانحرافات ضمن كتب التراث لا يعني نبذها عن آخرها، فقد حفظ لنا التراث كتب السنة والمرويات المتعلقة بالقرآن وعلوم العربية وأخبار الصحابة وإجماعات كثيرة، وهي أهم ما نحتاجه لفهم دين الله والعمل به. وهؤلاء الذين يدعون إلى تجاوز هذا التراث، إنّما يعنون به في الأساس كتب السنة ومرويات الصحابة والسلف والأئمة من أكابر علماء القرون الأولى، بينما تجدهم من أكثر المهتمين بتراث متأخر عن ذلك كتراث الفلاسفة المسلمين وتراث بعض المتصوّفة، وهو ما طرأ عن النبع الأصيل من انحراف. إنّ هذا الذي لا يكاد يحفظ حديثا واحدا وينظر إلى كتب السنة باستخفاف، تجده يهتم غاية الاهتمام بنصوص غنوصية تنبهم فيها معالم الدين، ممّا يدل على أنّ مشكلته ليست مع كل التراث، وإنما مشكلته مع ما يحفظ معالم الدين من هذا التراث!

ولعلّ لهؤلاء عبرة في الدكتور جورج طرابيشي، فقد كتب كتابا سمّاه "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، زعم فيه أنّ العودة لمرويات السنة أدّت إلى تخلف الأمة، ولسنا نناقشه في هذا الزعم المغلوط، ولكنّ المفارقة المضحكة أنّه حين أراد في كتابه هذا إثبات سكوت الرسول صلى الله عليه وسلّم عن حوادث معينة وانتظاره لنزول الوحي فيها اعتمد بشكل أساسي على مرويات السنة في ذلك! أي إنّ طرابيشي اعتمد على "إسلام الحديث" في طريقه إلى "إسلام القرآن"، إذا أبحنا لأنفسنا استخدام مصطلحاته، فإنما الإسلام واحد. وهذا بالطبع دون إغفال مغالطاته الكبرى في الكتاب، وبأنّه أنفق صفحات طويلة فيه لإثبات أمور لا تؤثر على قيمة الاعتماد على السنة كمصدر تشريعي وكأحد تجلّيات الوحي الإلهي؛ فإثباته أنّ وظيفة الرسول هي البلاغ فحسب: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} لا يتناقض مع كونه عليه الصلاة والسلام يبيّن للناس ما نُزّل إليهم كما أخبر الله عز وجل في كتابه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، ولا مع كونه أيضًا يزكّي المؤمنين ويعلّمهم الكتاب و"الحكمة" كما أخبر الله سبحانه في كتابه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.

هذا ابن إسحاق وابن هشام وغيرهما يوثّقون لنا الحركة النبوية في بعديها الزماني والمكاني، ليضيف ذلك مساحة هائلة من الضوء لفهم القرآن ومرويات السنة وأحكامهما وفقههما. وذاك أبو عبيد القاسم بن سلام، يضع كتابه "الأموال" ليوثّق فيه مرويات السنة وغيرها حول إدارة الأموال وأحكامها.

إنّ النصّ القرآني عبارة عن حياة متكاملة، وليس نصّا فلسفيّا أو قانونيّا حتى يكون الرجوع إليه وتحليله كافيا – دون الاستعانة بأي سياق آخر – لفهمه، بل هذا لا يمكن في حالة النصّ الفلسفي أو القانوني أيضا. وإنّما هو نصّ هداية وتزكية وتربية ودعوة وأحكام وحياة كاملة، لا يمكن فهمه إلا من خلال فهمنا للنموذج الاجتماعي الأول الذي نزل القرآن عليه؛ لغته وأفكاره وثقافته وتفاعله مع القرآن وكيفية تطبيقه له. ولقد كان التراث الإسلامي هو الذي حفظ لنا هذا السياق متعدّد الجوانب ونقله بنزاهة لن تجد مثيلا لها في أي أمة أخرى. وإنّي لأعجب من هؤلاء المستخفّين بعلوم الحديث والرواية والجرح والتعديل وغيرها مما أنتجته الأمة، كيف لا يفخرون بهذا المنتج العلمي الضخم الذي تفرّدت به الأمة الإسلامية، فلا يسع العالم العاقل في عصرنا إلا الانبهار من المستوى التوثيقي العالي الذي وصلته الأمة الإسلامية في قرون مبكّرة. فهذا مالك يوثّق في "الموطّأ" السياق الاجتماعي القريب جدا من فترة النبوة ونزول الوحي، بمنهجية علمية ترى أنّ "الحياة" التي كان يعيشها المجتمع المدني هي الأقرب للمعهود في حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم في المدينة، وبين هذه وتلك عقود قليلة.

وذاك سيبويه المسلم الأعجمي، يقابل الأعراب الجفاة في أسواق البصرة، ويوثّق بمنهج علمي توصيفي لغتهم التي لا تزال تحافظ على نقائها، مع أشعار العربية في الجاهلية، ليترك لنا "الكتاب" الذي يعرف قيمته العلماء. وهذا ابن إسحاق وابن هشام وغيرهما يوثّقون لنا الحركة النبوية في بعديها الزماني والمكاني، ليضيف ذلك مساحة هائلة من الضوء لفهم القرآن ومرويات السنة وأحكامهما وفقههما. وذاك أبو عبيد القاسم بن سلام، يضع كتابه "الأموال" ليوثّق فيه مرويات السنة وغيرها حول إدارة الأموال وأحكامها، وليقدّم لنا صورا تطبيقية كثيرة يمكننا من خلالها فهم التوجيهات القرآنية المتعلّقة بالأموال. وغيرهم وغيرهم كثير.. إنما بنى اللاحق منهم على السابق، أفاد منه وتقدّم للأمام، لإدراكهم بأنّ العلم بالنصّ القرآني وبالوحي عموما لا يمكن أن يتم بالقفز فوق ما نُقل إليهم من مصادر علمية ونماذج تطبيقية ومرويات مسندة، لأنّها ستكون حينئذ قفزة إلى السراب.. فما بالنا بمن يريد القيام بهذه القفزة اليوم، بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا من نزول الوحي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.