شعار قسم مدونات

جمعة مقدسية.. في الديار التي أحب

blogs الأقصى

لَم أعتقِد أنّ العامَ سَينقَضي، وأنني سَأعودُ أغزلُ كَلماتي في المَسجِدِ الأقصى من جَديد، لَم أتخيّل أنّ كُلّ الحَواجِز التي تَقفُ بَيننا سَتُكسَرُ لِأستَطيعَ مُقابلةَ حَبيبتي الذّهبيّة، لَم أعتَقِد كُلّ هذا.. فَكَمُّ الاشتياق كانَ مُوجِعاً، وَجميعُنا يَشعُرُ بِأنّ للوَجَعِ عُمرَ الخُلود. مُجَدّداً كُنّا قَد انطَلقنا أنا وأمّي قاصِدينَ البيتَ المُقدّس في الجُمعةِ الأولى من رَمضان، وقَد تَجاهَلتُ مَعرفتِي بِكَمّ التّعب والإرهاقِ الذي سَأعودُ أحملهُ على كاهِلي إثرَ الصّيامِ والحرّ والزّحام، ما أعرِفُهُ منذُ سنوات هُوَ أنّها فُرصَةٌ واحِدَةٌ فَقط أحظى بِها لِمرّةٍ واحدة كُلّ عام، هِيَ فُرصةٌ غَيرُ مُشبِعَة، ولكنّ لا بَأسَ بِها كَفَتاةٍ مَحرومَةٍ مِن أن تَكونَ في المَكانِ الذي تُحِبّ.

كانَتِ انطلاقَتنا من مَدينَتي نابلس في الساعَة 4:45 صَباحاً، آمِلينَ أن نَفرّ مِنَ الزّحام، عِندَها كانَ سائِقُ الحافِلَةِ يُنادي (لَقلنديا لَقلنديا)، حينَها تَمنّيتُ فَقَط لَو أسمعها لِمرّةٍ واحِدةٍ قَبلَ أن يَنفَذَ عُمري تُقالُ هكذا (للقُدس للقُدس)، حَسناً.. حاوَلتً كَسرَ جَبروتِ تِلكَ الفِكرَة لِكَيّ لا يَتقَمّصُني الألَم، وارتَخيتُ في مِقعَدي مُنتَظِرَةً أن يَكتَمِلَ عَددُ الرُّكاب، وفجأة وَقَفَ سائِقُ الحافِلَةِ قَبلَ أن ننطَلِقَ وخاطَبَ الرّكابَ بِانّ رِحلتهُم إلى قَلنديا سَتَكونُ مَجّانِيّة فَقَد تَبرّعَ فاعِلُ خَيرٍ بمَصاريفِ الحافِلَة، بِصراحَة أنا مِن أولئك المُستَعدينَ لِدفعِ عُمرِهِم مُقابِلَ زِيارَةِ القُدسِ لذلِكَ لَم يُثرني الأمرُ كَثيراً، ما لَفَتَني هُوَ تَعالي أصواتِ الرّكاب بالشّكر والدّعاء لِفاعِلِ الخَيرِ هذا، بدا العالَمُ لَطيفاً جِدّاً بِتلكَ اللّحظَة، وبعدَ أن سارَت الحافِلَةُ قَليلاً لاحَظَ السائِقُ سَيّدَةً تَشُقُّ ظُلمَةَ الفَجرِ لِتَصلِ إلى المُجمّعِ الغَربِيِّ حَيثُ نَركَبُ إلى قَلنديا، فَأقسَمَ أن يَقِفَ لِيُقِلّها مَعَنا.. لا أدري هَل الناسُ في مَدينَتي لُطفاءُ إلى هذا الحَدّ وأنا لَم أكُن أعلمُ بهذا! أم أنّهُ تَأثيرُ الشّهرِ الفَضيل!

مَرّ الوَقتُ سَريعاً، وأذّنَ المُؤذِنُ لِصلاةِ الظّهر (حَتّى الأذان في القُدس لَهُ هَيبَته وشُعورُهُ الخاصّ)، استَمعنا للخُطبَة، وصَلّينا الظّهر.. لَم أكُن أتخيّلُ أنّ كُلّ هذهِ الجُموع مُشتاقَةٌ إلى القُدسِ أيضاً، فَعددُ المُصلّينَ كانَ مُذهِلاً بالنّسبَةِ لي

تَجاوزنا حاجِزيّ حُوارَة وزَعتَرَة دونَ أن يَعتَرِضَ طَريقنا أحَد، وبَعدَ ما يَزيدُ عَن الساعَةِ والنّصف وَصَلنا أخيراً إلى حاجِزِ قَلنديا، كانَ العَددُ كَبيراً والناسُ مِن شَتّى المُدُن، ولكنّ الزّحامَ لَم يَكُن شَديداً، استَطعنا شِراءَ التّذاكِر وتَجاوُز الحاجِزِ ورُكوبَ الحافِلَة التالِيَة التي سَتُقلّنا مِن قَلنديا إلى القُدس، بَدَأت ذِكرَياتي في القُدسِ تَقفِزُ إلى عَقلي تِباعَاً، تَذكّرتُ نَفسي وأنا هُناكَ للمرّةِ الأولى بِرِفقَةِ أبي في عُمرِ الحادِيةَ عَشرة، تَذكّرتُني كَيفَ ضِعتُ مِنه وأخذتُ أبكي في ساحات الأقصى، والآنَ بعدَ أن كَبرت.. تَمنّيتُ لَو أنّني ضِعتُ في الأقصى للأبَد، وقفزت إلى عقلي ذِكرَياتي المَجنونَةَ مَعَ قَريباتي هُناك…، وَفي تَمامِ الساعَة السادِسَة وعشرينَ دَقيقَة وَصلنا إلى القُدس، كانَ يجبُ عَلينا أن نَسيرَ طَويلاً لِكَي نَصِلَ إلى الأقصى، ومَرّةَ أُخرى تعودُ أسوارُ القُدسِ تُذهِلُني، وسَتبقى تُذهلني للأبَد، ولَمّا بَدا بابُ العامودِ مِن بَعيد، تَذكّرتُ أولئكَ الشّهَداء الّذينَ قد نَزَفوا آخِرَ دِمائِهِم في هذا المَكان، كَم هُم عُظماء فِعلاً!

دَخلنا بابَ العامود وقَصَدنا المَطهَرةَ لِتَجديدِ وُضوئِنا، حَسَناً لَن أتكلّمَ عَنِ الزّحامِ الشّديد الذي كانَ هُناك، ولا عَن الوَقتِ الكَبيرِ الذي ضاعَ ونَحنُ نَصعَدُ السُّلّمَ أو نِهبِطُه، ما يُمكنني أن أقولَهُ فَقَط هُوَ أنّ أهمّ الأُمورِ التي يَحتاجُها الإنسانُ هُناك هِيَ أصعَبُ الأُمورِ التي يُمكِنُه الحُصولُ عَليها.

بَعدها تَوجّهنا إلى المُصلّى المَروانِيّ لِنُصلّي الضُّحى، ثُمّ أخذنا نَتَمشّى في ساحاتِ الأقصى أنا وأمّي، إلى أن خَرجنا مِن بابِ القَطّانينَ قاصِدينَ السّوق، طَبعاً.. وكَكُلّ عام، اشتَريتُ الغومات التي لا يُمكِنُ أن أعودَ إلى نابلِس دونَها، كَما واشتَرينا الكَعكَ المَقدِسِيّ وأشياءاً أخرى للذكرى، وعُدنا لِساحاتِ الأقصى وجَلسنا تَحتَ إحدى القَناطِر إلى جِوارِ صَديقاتِ أمّي، هُناكَ صَلّينا وقَرأنا القُرآن، بعضُهُنّ استَلقى وغَطّ بالنّوم، والأخرَياتُ أخذنَ يَتبادَلنَ الأحاديثَ ويَتعارَفنَ على بَعضِهنّ البَعض.

مَرّ الوَقتُ سَريعاً، وأذّنَ المُؤذِنُ لِصلاةِ الظّهر (حَتّى الأذان في القُدس لَهُ هَيبَته وشُعورُهُ الخاصّ)، استَمعنا للخُطبَة، وصَلّينا الظّهر.. لَم أكُن أتخيّلُ أنّ كُلّ هذهِ الجُموع مُشتاقَةٌ إلى القُدسِ أيضاً، فَعددُ المُصلّينَ كانَ مُذهِلاً بالنّسبَةِ لي.. ثُمّ صَلّينا العَصرَ مَعَ الإمام جَمعاً وقَصراً، وتوجّهنا أنا وأُمّي نَحوَ بابِ الحَديدِ لِكَي نُغادِرَ الأقصى في الساعَة الواحِدَة والنّصف، قَد يَعتقِدُ البَعضُ بِانّ الوَقتَ لازالَ باكِراً، ولكنّهُ لَيسَ كذلكَ إطلاقاً..

أدرَكتُ أنّه يَبعُدني الآن عَنِ القُدسِ سَنَةٌ أخرى، أنّ روحي سَيكويها الاشتياقَ عاماً آخَر، أنّني سَأظلُّ المُتيّمَةَ البَعيدَة، الّتي لا يَحلّ لَها أن تَدخُلَ بَيتَها إلّا مَرّةً واحِدةً في كُلّ عام.. أنّ القدسَ صارت خلفَنا

كانَ هُناكَ بَعضُ الزّحامِ على بابِ الحَديد، ولكنّهُ كانَ أقلّ مِنَ الأبوابِ الأُخرى، وخَرجنا بَعدهُ أخيراً مِن بابِ العامود الّذي كُنّا قَد دَخلنا مِنه مَعَ الكَثيرِ مِنَ الزّحام، حَسَناً عِندَها أدرَكتُ أنّ فُرصَتي قَد انتَهَت، وأنّني قَد أصبَحتُ الآنَ بَعيدَةً عَنِ المَكانِ الدّيارِ التي أحِبّ..

سِرنا مَعَ السائِرينَ نَحوَ الحافِلاتِ المُؤدّية إلى حاجِزِ قَلنديا، كانَت الأعدادُ كَبيرَة جداً، والحاجِزُ المَوضوعُ لتَنظيمِنا يَزيدُ منَ الاختناق، فالشّمسُ تَنهَشُ بِرُؤوسِنا، والزّحامُ يُقتُلُ فَرصَةَ تَسلُّلِ أيّ نَسمةِ هَواء، كانَ مِنَ المُذهِلِ أن أركَبَ أنا وأمّي في نَفسِ الحافِلَة، فالكَثيرُينَ لَم يَستَطيعوا فِعلَ هذا، الحمدُ لله استَطَعنا بَعدَ جُهدٍ جَهيد، وصُداعٍ شَديد، أن نَركَبَ إلى قَلنديا في حُدود الساعَة الثانِيَة والنّصف، تنفّسنا الصّعداء، وحَمدنا الله، ووصَلنا إلى حاجزِ قَلنديا بِعدَ الثالِثَةِ بِقَليل..

مَرةً أخرى كانَ عَلينا أن نَسير وُصولاً إلى الحافِلاتِ التي سَتُقلّنا إلى مَدينَتي نابلِس، استَطَعنا بعدَ بَعضِ الوَقتِ الرّكوبَ في الحافِلَة، ولكنّ الحافِلةَ لَم يَكُن بِإمكانِها أن تَسيرَ بِسَبَبِ عَددِ الحافِلات والزّحام وغَيرها مِنَ الأسباب، بَعدَ الكَثيرِ مِنَ الوَقت استَطاعَت الحافِلَةُ السّير، كُنتُ أتّكِؤُ على كَتفِ أمّي فَأغفو قَليلاً، وتتكؤُ عَلى كَتفي فَتَغفو قَليلاً، وأنظُرُ مِنَ النافِذّة للجِبالِ والأشجارِ التي تَهرُبُ للوَراء سَريعاً، عِندها أدركتُ مُجدّداً أنّ رِحلَتي قَد انتَهَت وأنّه لا يمكِنُني أن أتراجَعَ وأعودَ إلى الأقصى، أنّ اشتِياقي ولَهفَتي طَوالَ عامٍ لِهذا اليوم لَم تُشبِعها تِلكَ السُّويعاتُ القَليلَة، شَعرتُ وَكأنّني نَسيتُ احتِضانَ ذاكَ المَكان، نسيتُ احتِواءَه، ونَسيتُ قَلبي كَكًل عامٍ مُعلّقاً في أعلى سورِ القُدس، وبَدأ صَوتُ تَميمِ البَرغوثي يَدورُ في رَأسي:

أكتُبُ هذا، لِتَعلَموا أنّنا نحنُ القَريبونَ عَنها بَعيدونَ عَنها كُلّ البُعد، أنّ ما يَفصلنا عَنها لَيسَت المَسافات فَحَسب، لِتعلَموا أنّنا رُغمَ كُلّ شَيء.. نُحاوِل، وننتَهِزُ الفُرَص، نَحنُ لَسنا الّذينَ تتّهمونَهُم بِأنّهُم باعوا البِلاد، بَل نَحنُ الّذينَ نَبيعُ راحَتنا وأرواحَنا مِن أجلها

العَينُ تُغمضُ ثُمّ تَنظُر
سائِقُ السّيارَةِ الصفراء مالَ بِنا شَمالاً نائِياً عن بابِها
والقُدسُ صارَت خلفَنا
والعينُ تُبصرها بمرآة اليمين تغيّرت ألوانُها في الشّمسِ من قبلِ الغِياب
إذ فاجأتني بَسمةٌ لَم أدرِ كيفَ تَسلّلت في الدّمعِ قالَت لي وقًد أمعنتُ ما أمعَنت
يا أيها الباكي وَراءَ السورِ أحمقُ أنت؟ أجُننت!
لا تبكِ عينُكَ أيها المَنسيّ من مَتنِ الكتاب
لا تبكِ عينُكَ أيها العربيّ واعلَم أنّهُ 
في القُدسِ من في القُدسِ لكِن لا أرى في القُدسِ إلّا أنت

أدرَكتُ أنّه يَبعُدني الآن عَنِ القُدسِ سَنَةٌ أخرى، أنّ روحي سَيكويها الاشتياقَ عاماً آخَر، أنّني سَأظلُّ المُتيّمَةَ البَعيدَة، الّتي لا يَحلّ لَها أن تَدخُلَ بَيتَها إلّا مَرّةً واحِدةً في كُلّ عام.. أنّ القدسَ صارت خلفَنا.. وَصلنا إلى البَيتَ في الساعَةِ الخامِسَة والتّعبُ ينخُرَ أجسادَنا، وصَلتُ وقَد نَويتُ أن أعودَ مُجدّداً في رَمضانَ القادِمَ إن كُتِبَت لِيَ الحَياةُ إلى حينِها، نَعَم وَصَلنا.. ولكنّ قَلبي لَم يَصِل..

أكتُبُ هذا، لِتَعلَموا أنّنا نحنُ القَريبونَ عَنها بَعيدونَ عَنها كُلّ البُعد، أنّ ما يَفصلنا عَنها لَيسَت المَسافات فَحَسب، لِتعلَموا أنّنا رُغمَ كُلّ شَيء.. نُحاوِل، وننتَهِزُ الفُرَص، نَحنُ لَسنا الّذينَ تتّهمونَهُم بِأنّهُم باعوا البِلاد، بَل نَحنُ الّذينَ نَبيعُ راحَتنا وأرواحَنا مِن أجلها، كُلّ التّعبِ يَهون، فَقَط لِنكونَ هُناك، في الديار التي نُحبّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.