شعار قسم مدونات

الغناء تحت “الدُش”

blogs رجل يقف بظهره

"الدُش" المكان الوحيد الذي لا تسمع فيه سوى صوتك، ومهما بدا صوتك هذا نشازًا فلن يبدو كذلك في حجيرة الاستحمام الصغيرة؛ لن يبدو لك سوى صوت ملائكي رخيم يستحق أن يُصدر للعالم أجمع كبلسم للمتعبين. خارج هذه الحجيرة الصغيرة يبدو العالم بتفاصيله المهولة.. كبيرًا جدًا، ولا محدود.. مزيج من الأصوات التي قد لا يعجبك بعضها وقد لا تطيق بعضها الآخر. لكنك أنت.. فرد عادي في مجتمع عادي.. ماذا تملك حيال ذلك؟!

حسنًا.. "السيسي" ليس فردًا عاديًا ويبدو عاقدًا العزم على تحويل مصر لحجيرة الاستحمام خاصته فيخطو فيها واثقًا يختال وهو يقول: "اسمعوني أنا بس" ويغني على ليلاه!

بدأ الأمر بسيطًا، لم يلحظه أحد لأن السيد "الرئيس" السيسي لم يكن الرئيس وقتها، كان في منصبه كوزير للدفاع عقب 3 يوليو2013، وإغلاق قنوات مصر 25 والحافظ والناس والرحمة… بحجة كونها تابعة للتيارات الإسلامية التي "تهدد الوطن".

الوطن المهدد، بات الذريعة وراء كل خطوة من بعدها، قتل الصحفيين، اعتقال الصحفيين، تهميش إعلاميين ومنع آخرين ومر كل هذا مرور الكرام في ظل وجود نقابة ضعيفة تذعن للنظام؛ حتى انتهى الأمر إلى حجب كل موقع معارض، أو حتى مجرد ناقل للخبر دون "تقبيل الأيادي".

"ميصحش كده" كانت مطلع القصيدة؛ أو الديوان ربما. عبارة قوبلت باستهزاء وسخرية من الجميع ولم ير أحد ظلال هذه العبارة التي ترامت حولنا بداية من التضييق على كل إعلامي له شعبية أو شخصية مختلفة إلى قانون تنظيم الإعلام الذي صدقه البرلمان وينتظر الموافقة من السيسي.

"اسمعوا كلامي أنا بس" تجلت في حجب 21 موقعًا من المواقع الإخبارية على رأسها موقعي شبكة رصد الإخبارية وقناة الجزيرة، إضافة إلى عدد كبير من المواقع الإخبارية المحلية؛ التي منها ما يتم طباعته بالفعل ولم تتوقف طباعته رغم الحجب. ومن ثم يستمر الحجب بهذه القائمة المبدأية التي من المتوقع أن يضاف إليها عدد من المواقع خلال الأيام التالية مثلما أضيف DailyNewsEgypt وموقع محيط وجريدة البورصة.

ورغم رفض العديد والعديد من الصحفيين لهذا الحجب وتدشينهم هاشتاج #لا_للحجب عبر صفحاتهم؛ إلا أن النقابة تأتي بصوت لا يبدو أنه يعايش الواقع حيث يقول نقيب الصحفيين عبدالمحسن سلامة أنه بصدد "بحث الأمر" بعدما تلقى الشكاوى.. إلا أنه يرحب بالحجب لأن بعض المواقع "داعمة للإرهاب" على حد زعمه.

المحزن أن هذا الحجب لم يلاق رد فعل اجتماعي من أي نوع؛ فلا تجد معترضين عليه سوى رواد المجالين الإعلامي والحقوقي فقط لا غير. هل يعزّى ذلك لأنه منذ بدأت أنباء الحجب تشاع شرعت المواقع الإخبارية في توعية جماهيرها بكيفية تجاوزه أم لا؟ لا يمكننا أن نعرف.. لكن الأكيد أنه ليس هناك اعتراض جماهيري واضح من حيث المبدأ ضد الحجب.

سيغني السيسي على ليلاه ما شاء.. وسينفذ الشعب أمره: سيفكر كل منهم في كل كلمة قبل أن تصدر منه؛ ولن يستمعوا لأحد غيره

في البداية، كان المنع يواجه صحفيًا واحدًا كل مرة، بعد ذلك، بالإقالة أحيانًا، بالتشهير أحيانًا أخرى، والبعض الآخر بالملاحقة القضائية والحبس، ثم أتى الحجب موقعًا تلو موقع حتى أصبح بالجملة. وكما مرر قانون الجمعيات الأهلية بجرة قلم من السيسي دون مراجعة كما وعد؛ فربما يجب أن نتأهب لقانون تنظيم الإعلام الذي ينظمه باختصار بوضع أي عمل إعلامي أو صحفي تحت رحمة الجيش والسلطة التنفيذية والعبارة الشهيرة: "مقتضيات الأمن القومي".

إن مستقبل الصحافة والإعلام المصري مهدد، على الأقل الحديث منه. ربما يعود عهد المنشورات الصحفية التي تُخبأ في المحافظ وأسفل الكتب وتمرر على استحياء خوفًا من الرقابة والتخشيبة.

في مصر، التظاهر ممنوع، والتجمعات ممنوعة، والصحافة في طريقها إلى المنع الكامل؛ فما الذي ينقص حتى تخلو الساحة؟ ما هي إلا مسألة وقت وكل وسائل التعبير سيوضع لها حد.. لذا لن أستغرب إذا وجدت فايسبوك وتويتر وقد حجبوا في مصر، ومن ثم رسائل المحادثة الشخصية؛ فلا يبقى أمام الناس للتواصل سوى خط الهاتف الذي يشاركهم إياه ضابط المراقبة. حينها؛ سيغني السيسي على ليلاه ما شاء.. وسينفذ الشعب أمره: سيفكر كل منهم في كل كلمة قبل أن تصدر منه؛ ولن يستمعوا لأحد غيره. وحينها: ستكون مصر "حجيرة استحمام" صغيرة، يغني السيسي فيها ما بدا له "تحت الدُش".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.