شعار قسم مدونات

عن الوطن والهروب والهُوية

blogs- egypt

كلما طال المكوث بمصر طال الإحساس بالغربة، فالغربة أصبحت إحساس يكتنف من يقبع في هذه البقعة من العالم. لا تستطيع أن تعد بلدا يلفظك ويلفظ أنفاسه الأخيرة وطنًا، فهو أبعد ما يكون عن ذلك؛ تخبرني صديقتي أنها لم تعد قادرة على العيش هنا، وأنا أعلم مدى صدقها، فالحياة هنا اصبحت لا تطاق.

الظروف الاقتصادية تخنق الجميع والتدني الأخلاقي والعبث الاجتماعي يخنق من يريد أن يحيا في سلام نفسي. ما الذي أوصلنا إلى هذا الحال؟ ما الذي دفع صديقتي إلى رفض العيش هنا؟ ما الذي جعل مصر مقبرة لأبنائها؟

عندما تجمعنا بميدان التحرير نتقاسم الحلم ورغيف الخبز تصورنا أن القادم أفضل وأننا أنهينا الحقبة السوداء، لكننا لم نكن نعلم أن ما هو قادم سواد حالك لا يتخلله أمل ولا ضوء. كلما زاد الظلم زادت معه روح المقاومة فقاومنا وقاومنا ولم نيأس حتى تيقنا أننا لا نقدر أن نثور على الشعب ذاته، فالشعب هادىء مستكين راضي بالظلم والظلمات. حاولنا أن نجعلهم يفيقون أن نجعلهم يفقهون ويشعرون بثقل الظلم لكن لا حياة لمن تنادي ومنهم من تفهم الأمر لكنه أثر السكوت حتى يهنأ بالعيش في سلام. لم نكن نعلم جميعًا أن لا سلام مع الذئاب يدوم أبدًا.

ضاقت المعيشة على الجميع، ومن آثر السكوت بالأمس أصبح لا يطيقه اليوم، لكن "فات الميعاد فات!" كما تغنت "الست"، لم يعد هناك ما يحمينا من الذئاب فقد توغلوا وتوحشوا وحكموا المدينة كلها ولم يعد بإمكاننا أن نزيحهم من الطريق ثم نحيا بسلام فهذه معركة البقاء لهم؛ إما نحن أو هم.

أصبحنا نحيا في سجن متنقل ينتقل معنا من مكان إلى مكان، هذا الواقع المرير من سجون ومعتقلات وتصفيات لا يمكن أن يُوصف بقوس قزح والدببة الملونة فهو واقع أسود اللون شئنا ذلك أم أبينا.

الآن لا مفر من كل هذا إلا الهروب، ولم يعد يجدي الهروب عقلًا أو روحًا فلابد من الهروب الجسدي من المكان كله قالتها صديقتي، ويوافقها الرأي الكثير، لم أعد أطيق العيش هنا. ماذا عسانا أن نفعل الآن؟! أنلقي بأنفسنا في مراكب هجرة لنؤدي مشهدا من مشاهد الانتحار الجماعي؟ غالبًا سيلجأ قليلي الحيلة إلى هذا الحل.

أما المثقفون فسيهرعون إلى فرص الماجستير والدكتوراه المقدمة من أي دولة حتى يهربوا من هذا الجحيم وسيبقي على هذه الأرض من لا يحمل مالا لطقس الانتحار الجماعي، ومن لا يحمل علما لفرص الماجستر والدكتوراة.

وماذا عن الهُوية؟ أين ستذهب الهوية المصرية؟ هل ستغرق مع من يغرق؟ أم ستهاجر إلى الخارج؟ أم ستبقي حبيسة الحواري وطوابير الخبز والتموين؟ أين هي تلك الهُوية بالأساس؟ هل يحق لشعب مثلنا أن يسأل عن هُوية؟ هل يحق لمن هم مثلنا أن يتساءل عن كونية هُويتنا؟

أصبحنا نحيا في سجن متنقل ينتقل معنا من مكان إلى مكان، سيرى البعض في كلامي اليأس لكن الواقعية لا يمكن أن تُسمى يأسًا. هذا الواقع المرير من سجون ومعتقلات وتصفيات لا يمكن أن يُوصف بقوس قزح والدببة الملونة فهو واقع أسود اللون شئنا ذلك أم أبينا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.