شعار قسم مدونات

مسألة السلطة.. بين الديمقراطية والحاكم بأمر الله (2)

BLOGS - Arab League countries

ومن الكنيسة بدأت حركة الإصلاح الديني عبر المجالس الكنسية التي ناقشت سلطة البابا وحدودها، والتي انطلقت مع القرن الرابع عشر من كتابات جون الباريسي، ثم مرسيل دوبادو، ووليم أوكهام، وانتهت بمجمع كوستانزا (1414- 1418) ومهدت هذه الأفكار لحركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر عن طريق مارتن لوثر وجون كالفن، والذين بذلا الكثير لإحداث تغيير في الذهنيات الأوروبية والدفاع عن الحرية الشخصية ومواجهة الطغيان، وهو ما جسده أحد أتباع كالفن وهو جون كنوكس في قوله: "ذلك أن القول بأن الله يأمر بطاعة الملوك عندما يفتقدون التقوى والصلاح لا يقل تجديفا عن القول بأن الله بسنته هو المبدع والمحافظ على الجور".

وعلى أفكار هؤلاء جاءت النظريات التي قعدت للديمقراطية في الفكر الإصلاحي التنويري في القرن الثامن عشر خاصة من الفلاسفة الفرنسيين، والحقيقة أنها بدأت خلال القرن السادس عشر في كتابات المناهضين لطغيان الملكية، مثل: فرنسوا هوتمان، وتيودور دوبيز، وهوبير لانجيه الذي احتوى كتابه: "دفاع ضد الطغيان" فكرة العقد الاجتماعي التي مفادها: "أن يحكم الملك حكما عادلا، ويلتزم الناس بطاعته ما التزم بذلك"، و" أن الناس هم من يفوضون سلطتهم للملك ويحاسبونه على تطبيق العدل"، ثم جاءت بعدهم في القرن السابع عشر في كتابات: جوهانس ألتوسيوس:" أن الشعب لا يستطيع التخلي عن السلطة باعتبارها ركيزة العقد الاجتماعي التي بني عليها المجتمع، ولكنه يتخلى بموجب عقد آخر إلى من يتولون الإدارة بقصد تنفيذ أغراض الجماعة، وهذا معناه أن الشعب يسترجع السلطة إذا خانها من يمسك بها لأي سبب".

في التاريخ الإسلامي ظهرت أولى نماذج الحكم مع وصول الرسول -عليه الصلاة والسلام- للمدينة، عبر الصحيفة التي ضبطت علاقات أهل المدينة فيما بعضهم، وأرست أولى دعائم نظام سياسي حقيقي.

ويمكن اعتبار "جون لوك" (1632- 1704) من أهم المفكرين الذين دعوا إلى الديمقراطية، والذي نظر للثورة الإنجليزية 1688 بقوله: " أن الفوضى ليست البديل الوحيد للاستبداد، فهنالك الحكم الدستوري المقيد الذي يمنع الفوضى والاستبداد معا"، وذهب "إلى أن المواطنين يتنازلون عن جزء من حريتهم للحكام من أجل حفظ الأمن ورعاية المصالح المشتركة في إطار ديمقراطي، وهذا التنازل عن بعض الحريات الفردية للسلطة المركزية مقيد باتفاقية أو عقد أو دستور متفق عليه بين المواطنين والحكام، وأن شرعية الحاكمين ليس لها مكان إذا لم يوجد مثل هذا العقد".

ثم جاء جان جاك روسو (1712- 1778) ومنتسكيو (1689 – 1755) ليتوجوا هذه الأفكار، بنظرية العقد الاجتماعي، ويضعان نظرياتها، والتي بموجبها يصبح الفرد عضوا في منظومة الدولة الجامعة من أجل المصلحة العامة ويخضع لقوانينها، لكنه يحتفظ بحريته الشخصية باعتبار القوانين جاءت لخدمته، وعلى أفكار روسو قامت الثورة الفرنسية لتطيح بالملكية، وتستلهم الإرادة الشعبية، وتقتبس فكرة الديمقراطية التمثيلية من أفكار مونتسكيو، وتنقل الممارسة إلى آفاق جديدة، رغم أنها – الثورة الفرنسية- احتاجت قرن من الزمان لتطبيق أولى أفكارها، وفي حين كانت الثورة الأمريكية تجسيدا لأفكار جون لوك، والتي حوى إعلان الاستقلال الأمريكي الكثير منها.

وفي التاريخ الإسلامي ظهرت أولى نماذج الحكم مع وصول الرسول -عليه الصلاة والسلام- للمدينة، عبر الصحيفة التي ضبطت علاقات أهل المدينة فيما بعضهم، وأرست أولى دعائم نظام سياسي حقيقي، يقوم على رأس لهذا النظام، والبنية الهيكلية التي كانت ملائمة لتلك الفترة، في تناقض مع المسيحية التي ولدت ونشأت في ظل قوانين وتشريعات وسلطة روما فلم تلتفت كثيرا لنظام الدولة كما يقول الدكتور الشنقيطي، في حين أن الإسلام الذي جاء في طبيعة صحراوية لم تعهد وجود نظام حكم مركزي منظم في السابق، ونتيجة وجود كثير من التشريعات بخلاف الأخلاق والعقائد عنت بسير الحياة واقتضت وجود سلطة مشرفة على تنفيذها، كان لزاما ومنطقيا أن تنبثق دولة للإسلام.

كانت ممارسات الرسول -عليه الصلاة والسلام- كلها تشير لاعتباره مؤسس وقائد دولة، فتشكيله الجيوش وتعيين القادة عليها، وتعيينه العمال على المناطق وإرسال السفراء ومباشرة القضاة بنفسه، لا يمكن أن تصدر عن غير من يدير دولة، لكن وحتى في حياته -صلى الله عليه وسلم- لم تكن الشورى نافلة يمكن أن يستغنى عنه، بل تثبت الأحداث أنه لجأ غير مرة لاستشارة الصحابة، كما في حادثة مصالحته غطفان على ثلث ثمار المدينة وتراجعه عن ذلك نزولا عند رأي ومشورة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومثل نزوله على رأي الحباب بن المنذر في تغيير مكان غزوة بدر، وحين صرح بها واضحة قبل غزوة بدر:" أشيروا علي يا قوم"، بل تثبت الوقائع والسير أن الصحابة عارضوا الرسول في القضايا التي لم تكن من صميم الوحي، مثل معارضة عمر لإطلاق الأسرى، ومعارضة كثير من الصحابة لصلح الحديبية.

يمكن اعتبار الخوارج المثال الواضح على الرفض والمعارضة المستمرة لنموذج الحكم الجبري، بل إنهم كانوا إحدى نتائج تغييب الشورى، ورغم كثير من النقائص والمثالب التي في حقهم لكنهم كانوا الفئة التي لم تستطع بلع معارضتها والقبول بالتوازنات.

وعند وفاته عليه الصلاة والسلام، سارع الصحابة مباشرة لبحث أمر من يخلفه على رأس هذه الدولة، والمسارعة دليل آخر على أهمية هذا المنصب وإحساسهم بخطورته وأهميته، وحدث خلاف السقيفة المشهور، لكن حسمه مبايعة أبي بكر، ولم تحدث إلا بعد نقاش وتبيين لأسباب وشروط ترشيحه لهذا المنصب، ولم ينلها إلا بعد موافقة جل الصحابة مع معارضة سعد بن عبادة، وبعد أبي بكر تمت البيعة لعمر بمشورة أبي بكر لكبار الصحابة ورضاهم، مع وجود معارضة لطلحة بن عبيد الله، وجاء ما فعله عمر بن الخطاب في اختيار من بعده ليؤصل للشورى في انصع صورها، حين كلف الستة من كبار الصحابة ممن رأى توفر شروط الولاية فيهم للاجتماع واختيار أحدهم، وجاء ما حدث بعد عثمان وما سمي بالفتنة ليحدث بلبلة في أذهان كثيرين عن حقيقة الشورى ونموذج الخلافة الراشدة المتألق،،رضوان الله على الجميع.

وبعد ما جرى في الفتنة والحيثيات التي أوصلت معاوية رضي الله عنه للحكم، ونشوء ما سمي بالدولة الأموية أفاق الناس على نموذج آخر للحكم سلب حق الناس في إبداء الرأي في من يحكمهم وجعله جبريا متوارثا، رغم صراحة الآية القائلة أن الأمر شورى، وإن كان تنازل المسلمين وكبار الصحابة من أجل درء الفتنة والقبول بأقل الأضرار، فإن هذا لا يعني أن هذا النموذج ينبع من صلب الإسلام، بل كان تقليدا واستلهاما لنموذج متوفر في دولة الجوار آنذاك، روما وفارس والتي جاء الإسلام أصلا ليخلص الناس من استبدادها وسطوتها وفسادها.

هذا التصرف لم يعجب كثير من الصحابة وبعد ذلك من التابعين، ورغم السكوت على مضض، جاهر آخرون مثل الحسين وعبد الله بن الزبير وأهل المدينة برفضهم، وبعدهم أبناء الحسن وكثير من مشى على نهجهم في مناوئة الحكام ورفض طريقة الحكم تلك، وسواء كان ذلك رفضا للنموذج أو للأمويين أنفسهم فيمكن اعتبار الخوارج المثال الواضح على الرفض والمعارضة المستمرة لنموذج الحكم الجبري، بل إنهم كانوا إحدى نتائج تغييب الشورى، ورغم كثير من النقائص والمثالب التي في حقهم لكنهم كانوا الفئة التي لم تستطع بلع معارضتها والقبول بالتوازنات، وتسكت على أن تنسب أول دول الإسلام ظهورا لرؤوس في الجاهلية كما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله، رغم أن دول الخوارج التي تأسست لم تخرج عن النموذج الوراثي الجبري.
يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.