شعار قسم مدونات

أبو وحدة وعياله

مدونات - رجل
لم يبدأ بالإحساس باستمتاعه بالحياة إلا عندما زوّجَ ابنه الأخير، فانتهى من همّ الطلبات والجاهات والتأثيث والتجهيز والذي مِنّه، وصار أكبر همه وخصوصا بعد التقاعد الاهتمام بحديقة بيته الخلفية التي زرعها من كل الأشكال.. يسقي النعنعات هنا، ويطمأن على شتلات الفاصولياء والبندورة هناك، ولا ينسى أن يقنّب ورداته الجورية المطعمة بثلاثة ألوان، جلبها معه بعد آخر زيارة له لابنته الكبرى التي تعيش مع زوجها اللبناني في بيروت.

كل ليلة كان يسهر على الأخبار والبرامج السياسية الساخنة، فإذا كان موضوع الحلقة الحواريّة الساخنة حول العراق يطلب من ابنه الكبير أن يأتي بزوجته العراقية ليسهرا عندهم، فيُحبّ أن يدخل معها في نقاشات حول صحة ما يقول هذا الضيف أو ذلك، ويستمع منها عن العراق وأهله، فهي أكثر زوجات أبنائه قربا منه لأنها تذكره دائماً بأيام الدراسة في بغداد.

في تلك اللحظات يؤثر أبو وحدة عدم التفكير بشعور زوجته الحنونة بالقلق والخوف على مستقبل الأبناء والبنات وكل في بلد مختلفة، فيذكرها في كل مرة كيف جاء لخطبتها في القاهرة وكيف كان والدها -رحمه الله- شجاعاً في قراره ومتوكلاً على الله على مستقبل ابنته.

وعندما يسمع عن حملة اشتباكات واعتقالات في الضفة الغربية، يرتدي نظارته ويمسك بهاتفه الخلوي ويقلب الأرقام حتى يصل الى رقم ابنته الثانية والتي تزوجت تاجرا فلسطينياً وتسكن في الخليل، يهاتفها.. يسأل عن أحوالها ويطمأن على أولادها وأبوهم.

قبل بضع سنوات توفي حماه المصري، فسافر مع زوجته وابنه الأصغر إلى القاهرة للتعازي، وصادف أن التقى ابنه الأصغر مع إحدى بنات خالاته وأعجب بها فخطبها وعاد في السنة التي تليها لإقامة حفلة في القاهرة ومن ثم حفلة ثانية في عمّان بناء على طلب زوجته الغالية أمّ العيال، وكان في كل مرة يروح ويجيء من وإلى القاهرة، لا يسكت عن سرد مغامراته الجديدة والأحداث المختلفة لجاره وأبو زوجة ابنه الثاني السوريّة الجنسية.

زوْجُ ابنته الثالثة كان مهندساً أردنياً يعمل في دبي، وكانت أكثر بناته تعلقاً بالعائلة، فلا تمض شهور قليلة إلا وتطالبه وأمها بزيارتها أو تأتي هي على جناح الشوق الى عمّان، فكان أخوتها يعيبون عليها كثرة الصرف على السفر ويحثونها وزوجها على الاقتصاد في الغربة.

لكن أكثر قراراته حسما كانت عندما وافق على زواج ابنته الرابعة من شاب تركي مسلم درس اللغة العربية في الجامعة الأردنية معها، وقتها اضطر للسفر إلى تركيا كي يتعرف على أهله ويسأل عنهم هناك قبل إتمام الزواج، فلم يقبل أن يعطِ ابنته لشخص لا يعرفه، كما طالبت زوجته أن تسكن ابنتها زوجها في عمّان، لكن الفتاة وخطيبها أقنعا العائلة بأن العمل في تركيا أكثر جدوى اقتصادياً فيالوقت الحالي، فأذعنوا للأمر أخيراً.

كان عنده الكثير ليحكيه لأصدقائه المتقاعدين الذي يأتون للسهر كلما جاء من زيارة لأحد أبنائه أو بناته عبر الحدود، وكانت أبرز موضوعاتهم الأحوال السياسية والأزمات وما يجري في كل بلد ليتطرقوا بعدها حول الفروقات بين العادات والأكلات وفي الأسعار والعملة وما يتوفر وما لا يتوفر في تلك المدن، ويثيرون على إثر ذلك شجاعته في اتخاذ قرارات تزويج بناته وأبنائه من أشخاص من جنسيات مختلفة، خاصة وأن العالم العربي على حد قول أحدهم صار مشتعلاً بالأزمات والمشاكل والحروب..

لكنه كان يبتسم وكأن الأمر لا يعنيه، متذكراً أحفاده وهم يتراكضون حوله في حوش البيت في العطلات الصيفية عندما يجتمع الجميع.. وهم يتصارخون أحدهم باللهجة الأردنية وآخر بالفلسطينية وثالث بالعراقية، واللبنانية والسورية والمصرية والخليجية، فيما يتأتأ أصغر الأحفاد وهو بين يدي أمه بكلمات تركية وأخرى عربية مكسرة.

ترى هل سيأتي يوم نجد فيه هذا العربي المدعو بـ"أبو وحده".. وعيالُه وأحفادُه "العرب" يتقافزون حوله في مشهد لخريطة عربية ليس فيها أي حدود؟! بائسٌ شعوري المتفائل.

في تلك اللحظات يؤثر أبو وحدة عدم التفكير بشعور زوجته الحنونة بالقلق والخوف على مستقبل الأبناء والبنات وكل في بلد مختلفة، فيذكرها في كل مرة كيف جاء لخطبتها من أبوها في القاهرة وكيف كان والدها -رحمه الله- شجاعاً في قراره ومتوكلاً على الله على مستقبل ابنته.

يعود لسهرته ويتجاهل الرد على تساؤلات الأصدقاء المتقاعدين المتكررة ليسرد عليهم نكتة سياسية عن العرب والعروبة، ليتركهم لضحكهم بينما يداعبُ أفكاره بأحلام وتهيئات عن وحدة عربية إسلامية.. بدت روحه واثقة من قربها..

ملاحظة مهمة:
كتبتُ هذه القصة القصيرة قبل سنوات لبرنامجي الإذاعي "طباشير" وتحديداً في عام 2010، وكنت متفائلة إلى حدّ ما، كنتُ أنظر بعين "مُزغلِلَه" فيها أمل عريض واسع القلب لفكرة الوحدة العربية.. وحدة تشبه ذلك البيت في القصة والذي ينفع فعلاً أن يسمى عربياً، اليوم أجدني منكسة رأسي وأحس بالقهر والقلق والبؤس في كثير من الأحيان.. وعالمنا العربي يتكسّر ككسرة خبز يابسة في يد جائع عربي منهك في إحدى المخيمات وهو لا يدري أصلاً ما يجري..

ترى هل سيأتي يوم نجد فيه هذا العربي المدعو بـ"أبو وحده".. وعيالُه وأحفادُه "العرب" يتقافزون حوله في مشهد لخريطة عربية ليس فيها أي حدود؟! بائسٌ شعوري المتفائل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.