شعار قسم مدونات

أبو البنات

blogs - أب يحمل ابنه
أنا أب لثلاث بنات، في مجتمع عريق بعمق ثلاثة آلاف سنة من الحضارة كمجتمعنا، من الطّبيعيّ أن تجد من يراك أبا حزينا، لمجرّد أنّك لم تنجب غير البنات، وقد ينظر إليك غيره بشيء من الشّفقة الخفيّة، يسألك: ماذا أنجبت زوجتك؟، تقول له: بنت، فيحرّك شفتيه ويهزّ كتفيه في نوع من المواساة ويقول لك: "حتّى البنات باهين"، غيره يجدها فرصة ليحقّق نوعا من الامتلاء والاستعلاء أمامك، فأنت لا شكّ تشعر بنقص كبير يقارب الشّعور بالحرمان أو حتّى بالمهانة، لأنّك لم تنجب غير البنات، والأكثر توازنا وتواضعا، قد يعتبرك مجرّد رجل سيّئ الحظّ، سيّئ الحظّ ليس إلاّ، حسنا، هذا موضوع في غاية التّعقيد والرّكاكة، تمنّيت أن أكتب فيه منذ مدّة، لأفرّط الرّمّانة على مهل، وها أنّني أفعل.

ليست المسألة مرتبطة بالمستوى التّعليميّ ولا حتّى الاجتماعيّ لهؤلاء، فبعض النّاس يعتبر أنّ الذّكر سوف يحمل اسم والده ويخلّده، نوع بدائيّ من مقاومة الموت يكذب به الحمقى على أنفسهم، يصير به أكبر فضل لهؤلاء أن ينجبوا ذكورا كي يستحقّوا الخلود، وكأنّه يوم تبتلعهم أرحام الأرض من جديد ليواجهوا حسابهم، سيفرق معهم كثيرا إن كانوا قد تركوا وراء ظهورهم ذكورا أو إناثا، وكأنّ الخلود حكر على الرّجال من دون النّساء، فالذّكر يُخلِّدُ ويُخلَّدُ، أمّا المرأة فلا تُخَلِّدُ ولا تُخَلَّدُ.

إنّ من الآباء من أنجب جميلة بوحيرد وسناء محيدلي وأسماء البلتاجي وزينب الغزالي وهند شلبي وحياة عمري، و"داده" وغيرهنّ من الملكات العظيمات اللّواتي غيّرن العالم ولم يسمع بهنّ سوى أبناؤهنّ وأزواجهنّ وأحفادهنّ، ومن الآباء من أنجب السيسي وبشار.

صنف آخر يعتبر أنّ إنجاب الذّكور دليل وشهادة أمام المجتمع على الفحولة الكاملة، إنجاب الأولاد بالنسبة إليهم دليل أقوى على الكفاءة الجنسيّة لا يحتمل التّشكيك، أمّا إنجاب البنات، فليس دليلا كافيا، بل قد يكون دليلا على ما هو أسوأ بكثير، هؤلاء لا يعرفون أنّ الفحولة أمر والخصوبة أمر آخر، وأنّ الحبَلَ يمكن أن يتمّ أحيانا من مجرّد منيّ طائش في البيسين.

وصنف ثالث يفضّل الذّكور لأنّهم "عزوة عند الكبر"، وكأنّ الزّمن مازال متوقّفا عند نفس الحالة المجتمعيّة للخمسينات والستينات، بنفس البنية العائليّة التّقليديّة، وكأنّ التّجارب لم تثبت أكثر من مرّة، أنّ سندك حين تكبر من أحسنت تربيته وعاش ليقابلك بالإحسان وليس الذّكور تخصيصا أو الإناث…
هناك صنف رابع يعتبر الأنثى عارا، مصدرا للشّهوة واللّذّة والعار في نفس الوقت، ولا شيء غير ذلك، هؤلاء يعيشون فعلا بتلك العقليّة رغم أنّ بعضهم تعجبك أناقته وتبهرك شهائده العلميّة ويسحرك حديثه وهو يدافع في المجالس عن حقوق المرأة وكينونتها وحرّيّتها وبْلاَ بلا بلا بلا.

هؤلاء يعيشون جاهليّتهم بمنتهى الانسجام، ويعتبرون أنّ الأنثى إمّا سبيّة أو جارية، بحكم ما سوف يقع، وبالتّالي فهي عار محقّق أو مؤجّل يلحق صاحبه، ومن هؤلاء من يبكّر بالبنات، فتضربه المذلّة، ويكفّ حتّى عن مخالطة الأصدقاء وارتياد المقهى، ويظلّ ينتظر الذّكر كي يرفع رأسه بين الرّجال، حتّى إذا أتى استقام عوده، وإذا لم يأت عاش خزيّا مهينا طول العمر.

"داده" رحمها اللّه كانت توصيني بأن لا أكفّ عن الإنجاب، حتّى يأتي "التّرّاس"، وأمّي كان لها دور في المرور إلى الصّغير الثّالث، ثمّ تقبّلت الأمر كارهة عندما حسمنا الأمر أمامها بعد ذلك، وقلنا لها: "سكّرنا الحانوت! خلاص!"، وإلى اليوم ما زلت أشعر أنّ في نفسها شيئا من الحسرة، ولعلّي أتفهّمها هي بالذّات، فهي تقول إنّني عشت دائما وحيدا بلا سند (من الذّكور طبعا) أخي الوحيد توفّي عندما كان عمره تسعا وعمري سبعا، ولم يعمّر معي الأصدقاء طويلا، كنت دائما بارعا في خسارة الأصدقاء، وكانت تتمنّى لي ابنا ذكرا يسندني كما تقول، لكنّني خيّبتها في ذلك.

أبي لا يفصح عن شيء، لكنّني أستشعر أنّه قلق بشكل صامت على اسمه الّذي سيستمرّ معي بعده لجيل واحد ثمّ ينقطع، وزوجتي لا تستطيع أن تخفي شيئا من الإحساس بالمرارة من حين لآخر أنّها لم تنجب ذكرا، كي تختنه كما تفعل الأمّهات وتقطع له تلك الغلاشة الزّائدة، وكي يأتيها بكنّة تقلي لها الزّيت في عينيها وتمارس عليها الدّور الأزليّ الخالد للحماة الشّمطاء، حسنا.، لا بدّ لي من تعليق على كلّ ذلك، لن أقول ذلك الكلام الخائب الّذي يردّده الجميع في كلّ مرّة، وكأنّ قائله يريد أن يدفع عن نفسه تهمة، أو يثبت للآخرين أنّه سعيد بإناثه ويكاد يقسم على ذلك بالشمس والقمر والنجوم واللّيل إذا يغشى، ولن أغنّي مع الأخت الفاضلة نانسي عجرم: "يا بنات يا بنات يا بنات"، أريد أن أقول فقط ما يلي:

إنّ الحياة فعلا قصيرة، ولا شيء يمنحك الخلود سوى العمل الصّالح الّذي يبقى أثره، ولحظات المحبّة التي تعيشها مع من تحبّ، وحدها لحظات المحبّة سوف يذكرك النّاس بها دائما، وهي تسطع في ليالي الظّلمة الشّديدة.

ــ إنّ من الآباء من أنجب جميلة بوحيرد وسناء محيدلي وأسماء البلتاجي وزينب الغزالي وهند شلبي وحياة عمري، و"داده" وغيرهنّ من الملكات العظيمات اللّواتي غيّرن العالم ولم يسمع بهنّ سوى أبناؤهنّ وأزواجهنّ وأحفادهنّ، ومن الآباء من أنجب السيسي وبشار وشمس الشّمّوسي ولطفي العماري وبوحلاّب وصالح الحاجّة وذلك الشّيء الّذي احتفل ليلة مذبحة رابعة بالكسكسي بالحوت وأشياء أخرى.

ــ إنّ الحياة فعلا قصيرة، ولا شيء يمنحك الخلود سوى العمل الصّالح الّذي يبقى أثره، ولحظات المحبّة التي تعيشها مع من تحبّ، وحدها لحظات المحبّة سوف يذكرك النّاس بها دائما، وهي تسطع في ليالي الظّلمة الشّديدة، تنير عتماتهم، وتدفّئ أرواحهم في زمن الصّقيع.

ــ إنّ من يخاف العهر من نسائه لا شكّ أنّه عاهر وداعر، ولو لم يكن كذلك لما ظنّ بابنته أو أخته أو زوجته سوءا، إلاّ أن يكون قد سبق إليه.

ــ إنّ الأبوّة فرصة عظيمة تمنحها لنا الحياة، فعيشوها بكلّ أفراحها وأشواقها وخوفها وأخطائها وسرّها وصبرها وتعبها، فرصة رائعة لن يعرف قيمتها إلاّ من حرم منها، فلا تفسدوها بشطر القلب إلى نصفين: نصف للذّكور ونصف للإناث، إذا امتلأ أحدهما فرغ الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.