شعار قسم مدونات

حديث في الحبِّ والحريّة

blogs بنت الشاطئ

بعد وفاة زوجها الدكتور أمين الخولي بأشهر معدودات، غادرت عائشة عبد الرحمن زحمة الحاضرة، لتعتزِل في أرض مولدها على شاطئ النيل بدمياط فترة من الزمن، قضتها متأمِّلة مُتفكِّرة في حياتها قبل ومع وبعد الحبيب الذي تركها على الجسر ورحل، كما وصفت حالها في سيرتها الذاتية التي حملت العنوان ذاته، جسرٌ ظلَّت عالقة عليه لأكثر من ثلاثين سنة، قضتها جميعها في ترتيب حقائبها لموعد السَّفر لأجل لقاء معه في عالم الروح..

لم تصطحب عائشة عبد الرحمن في خلوتها سوى القرآن الكريم زادا تتزوّد به لتدبّر أعظم آية في حياتها أمين الخولي، الإنسان الخالد بقِيَمه، والبشري الفاني بجسده بمصطلحاتها هي، كتبت أثناءها مقالٌ في الانسان كتابا تجيب فيه بلغة القرآن على أكثر الأسئلة الوجودية إشكالا في عقول ووجدان المؤمنين حصراً، فهو كتاب يخاطب المصطفِّين بعد خط الإيمان لا قبله، وشتَّان بين أفقي الانطلاق في استقاء المعنى، واستشعار حلاوة الاعتقاد في المتجاوِز، ولذَّة الإشراق المتمرِّد على سطوة العقل وجبروته..

استقرأت عائشة عبد الرحمن آيات القرآن الكريم جميعها في تلك الخلوة، لتفهم وتُفسِّر وتتبيّن قصة الإنسان منذ بدء الخليقة إلى يوم مبعثها، فخلُصت إلى أنّ هذا الدين يقرُّ أن إنسانية الإنسان تتعالى على صفة البشرية المادية الفانية، والانتماء إلى الأنسية التي تمايزه عن العوالم الأخرى، لتصل إلى الدرجة التي تؤهِّله للخلافة في الأرض وتحقيقها، واحتمال تبعات هذا التَّكليف من مكابدة ألم الابتلاء، ومغالبة هوى النفس، ومحنة الغواية، حتى لا تكون رحلته العابرة في الدنيا عبثا باطلا، فيموت الآدمي البشر المادي، وتبقى القيم العليا والعمل الصالح ذخيرة للإنسانية جمعاء.

 

تعمد عائشة عبد الرحمن إلى مفهوم حرية الإرادة لتزيده تخصيصا وضبطا، فتُقرّ أنها لا تكون بمجرد الرغبة والميل، بل بانتقال النية إلى عمل، واستقرار العزم عليه مهما كانت العوائق، وهي غير إرادة الله في القرآن التي هي حكم نافذ وقضاء مبرم

وهو تكليف مع مكابدة يختصُّ بهما الانسان تكريماً من دون الخلائق أجمعين تخييرا لا تسخيرا مطلقا، إنسان حرٌّ حريَّة اختيار ووعي، لم ينل شرفها ملاك ولا إبليس، فلا هي تسليم وطاعة تسخير، ولا هي محض شر وشهوة تمرُّد وإصرار على الضلال، وإنما هي تحقيق للذات عن تمييز ووعي وإرادة عبر العلم، وبهذا تكون الحرية في الإسلام القيمة العليا لتحقُّق مبدأ الخلافة في الأرض، وكل تعطيل لها هو تعطيل لمسؤولية الإنسان.

وتستطرد بنت الشاطئ في استجلاء مفهوم الحرية وسيرورة تطوّره في التاريخ، فترى أن الإنسانية قد ناضلت طويلا لتحقيق معناها الأوَّلي بتحرُّر الإنسان من نظام الرقِّ والعبودية، باعتبار أن جوهر الدين كله هو عبادة الله وحده، ولكنها لازالت تناضل لأجل تحرير العقيدة والعقل والإرادة كما يقرُّها الإسلام العظيم الذي كفل حرية الاعتقاد والتدين برسم الآية "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، وحرية العقل والرّأي والسّؤال برسم الآية "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا"، وصولا إلى حرية الارادة والاختيار، العنصر الأكثر حسما وحساسية في المفهوم كله بحسبها، ذلك أنّه إذا كان شرط التكليف الاختيار كما يقول ابن رشد فكيف يمكن أن يحتمل الإنسان تبعة التكليف إذا فقد حرية الاختيار.

 

ثم تعمد إلى مفهوم حرية الإرادة لتزيده تخصيصا وضبطا، فتُقرّ أنها لا تكون بمجرد الرغبة والميل، بل بانتقال النية إلى عمل، واستقرار العزم عليه مهما كانت العوائق، وهي غير إرادة الله في القرآن التي هي حكم نافذ وقضاء مبرم، وأنّ إرادة الإنسان كسبية حرة فيما يعمل، وإنما الجبرية في حتمية المصير لما أراده باختياره، والحكم الإلهي العادل في إلزامه بتبعة اختياره الحر.

وهكذا تمضي بنت الشاطئ على نفس النهج والسبيل طيلة زمن الكتاب، تسترسل بمنهجها الاستقرائي في تلخيص قصة الإنسان من المبتدأ إلى المنتهى، وتخليصها من شوائب الأفهام، وتجريد معالم الطريق بنبض ايماني متعالٍ لافت، غير أنّها ومع استغراقها في السرد والتجريد، وكثافة مفاهيمها ومصطلحاتها، ظلّ أمين الخولي هو المدار ومنه وإليه المسار والوِجهة، مهما عدّدت محاور التدارس والتَّبيين، أو جرَّدت من قيم وفلسفات.

 

فكان التساؤل العميق الذي ضمَّنته في مقدمتها للكتاب هل كان يمكن أن أضلَّ طريقي إليه، فأعبُر رحلة الحياة دون أن ألقاه واحداً من أهم الإشكالات المفتاحيَّة والجوهريَّة التي تدفعك لقراءة الكتاب مرَّة بعد مرَّة، مُحاولا ربط الخاص بالعام أو العام بالخاص فالأمر سيان، تُسائل مفاهيمه البالغة التجريد في الحرية والارادة والاختيار، وتحاول تمثّلها كما تجلّت في قصّة الحبيبين، لتفهم أو في قليله تُقارب فكرة أن بنت الشاطئ لم تختر يوما درب العلم عن وعي وعلم، وكابدت وصبرت على آلامه ومحنه، إلاّ ليكافئها القدر جبرا بأمين الخولي معلِّما ومُوجِّها ثم زوجا حبيبا، فقدته يوما بشرا، وظلّ يعيش في وجدانها عقلها إنسانا يمنحها المعنى، وعزيمة المواصلة، والقدرة على مناورة الحياة وآلامها فيما تبقّى من العمر بعده مهما طال.

 

فسحةً من التّساكن والتحاور والتدافع وحتى التعارك، وقصَّة من أجمل وأكمل وأرقى قصص الحب والارتباط في الشرق كله، وحتمية لقاء عبرّت عنه بنت الشاطئ، وعبرت كل مراحله عن جدارة، بعيدا عن جدل أهل الدين والجذب والعلم والعقل

كانت إجابة السؤال واضحة مشرقة عميقة مباشرة دون فواصل ولا نتوءات حين قرّرت في نفس الكتاب بثقة ووثوقية أنها وحتى آخر العمر: لم يتخل عني إيماني بأنِّي ما سرت على دربي خطوة إلا لكي ألقاه.. وما كان يمكن أن أحيد عن الطريق إليه، وقد عرفته في عالم المثل ومجالي الرؤى وفلك الأرواح.. من قبل أن أبدأ رحلة الحياة.. هو أشبه بقانون الجذب كما يحلو لأهل الاستثمار في البشر والكون تسميته لكن من دون تعقيدات التصنيف، وتعريجات التقنين، ومحدودية الغايات.. هو توافق الأرواح منذ الأزل يبلُغ منتهاه بترافق الأجساد، وبينهما تمازج النفوس وتجانس العقول.

 

فسحةً من التّساكن والتحاور والتدافع وحتى التعارك، وقصَّة من أجمل وأكمل وأرقى قصص الحب والارتباط في الشرق كله، وحتمية لقاء عبرّت عنه بنت الشاطئ، وعبرت كل مراحله عن جدارة، بعيدا عن جدل أهل الدين والجذب والعلم والعقل، وتماهيا مع أهل الإشراق والأدب في مُشارفة معاني الحبِّ وإرادته والعزم على نيل نصيب منه في حياة الناس لو أحسنّا تمثّله في خيال أو كما كثّفها المتنبي شعرا وشعورا:

نصيبك في حياتك من حبيب.. نصيبك في منامك من خيال

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.