شعار قسم مدونات

تأملات معمارية مصرية في الرمزية التركية

مدونات - تركيا
كان يوم الخامس عشر من يوليو عام 2016 على وشك أن ينهي علاقته بالتقويم يوماً عادياً في حياة الأتراك والعالم حتى حلت الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل. اندفعت عناصر من الجيش التركي إلى الشوارع والجسور، طارت المروحيات وأُطلق الرصاص في المدينة التي كانت توشك على النوم. مهما كان توجهك أو مرجعيتك الفكرية أو الدينية أو حتى السياسية فلا يمكن أن تتجاهل مجموعة من المشاهد الفارقة التي حفلت بها هذه الليلة في رحاب مدينة إسطنبول، المدينة التركية المبهرة، مدينة التلال والمآذن.

توالت الأحداث متسارعة من قطع جسر البوسفور بواسطة فصائل من الجيش الوطني وحتى استقبال الرئيس المنتخب بواسطة شعبه معلنا انتهاء محاولة الانقلاب. ما بين المشهدين تجلت بطولات كثير من أفراد الشعب التركي الذين أدركوا بوعيهم ان التضحية واجبة حتى لا تعود بلدهم إلى مسلسل الانقلابات البغيض. رأينا شباب ورجال تركيا يقفون أمام الدبابة والسيارة المصفحة رافضين تحركها. رأينا السيدة التركية، شجاعة وحيدة، تعنف الجنود المنقلبين وتصرخ في وجوههم اذهبوا بعيدا واتركوا بلدي. رأينا الرجال يعيقون حركة الدبابات بسياراتهم فتمر فوقها الدبابة فتسحق السيارة والبطل الشهيد داخلها. رأينا شباب يستقبلون الرصاص بصدورهم ويسقطون أمام مبنى بلدية إسطنبول وجسرها الشهير، وهم يدافعون عن بلادهم ونموذجها المدني الديمقراطي.

لا أستطيع أبدا وأنا أبدي إعجابي الشديد بمنطق وعمق النموذج التركي لتكريم شهداء ليلة 15 يوليو 2016 لمنع مسار الحرية والديمقراطية والعدالة من الارتداد، أن أتوقف عن التألم لحالة شهداء بلدي مصر الذين سقطوا في ثورة 25 يناير أعظم ما حدث في مصر في عصرها الحديث.

مع إشراقة أضواء الصباح كان الشعب التركي قد ضحى بمائتين وخمسين شهيدا في ملحمة بطولية لا تنسى. بينما تجاوز عدد المصابين 2200 مصاب في عدة ساعات. ثم مر عام وجاءت لحظة الاحتفال والتذكر وتكريم من ضحى بنفسه في سبيل وطنه ومبادئه، فماذا فعلت تركيا؟ تأمل ماذا قال المسئولون الأتراك: "حتى لو كنا قد دفنا شهدائنا في أرض الواقع، فإنهم دائماً يعيشون في قلوبنا. أما مدبري الانقلاب فسوف يموتون مرارا وتكرارا كل يوم حسرة وندماً وهم قابعون خلف جدران السجن". ثم ولمزيد من الدلالات الوطنية والرمزية وإعلاء روح الانتماء سمي يوم 15 يوليو يوم "الديمقراطية والوحدة الوطنية".

تضمنت احتفالية الذكرى الأولى لدحر انقلاب يوليو 2016، من ضمن العديد من الأنشطة والفعاليات تشييد نُصب تذكاري لتخليد ذكرى الشهداء. تم تكليف فريق من المصممين والتشكيليين والمعماريين ومنسقي المواقع للتفكير المبدع في الكيفية التي يتم تخليد ذكرى هؤلاء الأبطال. جهد ورحلة من التفكير الخلاق انتهت بتكوين تشكيلي جمالي له دلالات رمزية عميقة. يقع النصب التذكاري بالقرب من ركيزة الجانب الآسيوي من جسر البوسفور، والذي تم تحويل اسمه إلى جسر شهداء 15 يوليو، حيث جرت أعنف الاشتباكات وقتل عشرات من المدنيين على يد مجموعة الخونة من العسكر المنقلب.

تم تشكيل النصب التذكاري كتكوين ثلاثي الابعاد على شكل قبة لإعطاء الإحساس باللانهائية والاستمرارية، وأيضاً من أجل تكثيف الرسالة الروحانية للمكان. في الوقت ذاته تشكل جسم القبة من تكوينات جيومترية متداخلة تبرز مضمون التضافر والتعاون والاتساق بين الجميع من أجل الوطن الذي تتوحد أمام مواجهة تحدياته كل الفصائل وتذوب كل الفوارق. القبة ترتكز على اربع عقود تراثية المرجعية، ومنها إلى أربع قواعد هندسية التكوين ترمز للرباعية التي أصبحت شعاراً للشعب التركي: شعب واحد، وطن واحد، علم واحد، دولة واحدة.

من داخل فضاء القبة تُكثف مشاعر الاحتواء، وفي ذات الوقت تستمر العلاقة البصرية مع السماء من خلال أنساق الفتحات هندسية التكوين ليتكون نسيجاً بديعا بين الداخل والخارج وبين الفضاء الحميم والسماء المفتوحة. في الداخل أيضاً، يشاهد الزائر أربعة عقود مرجعيتها مفردات عمارة المجتمعات الإسلامية، تلتف في حميمية وقد نقش على ثلاث منها أسماء كل الشهداء الذين سقطوا في هذه الليلة الفارقة في مصير تركيا. بينما العقد الرابع ينفتح على مشهد الجسر ليذكرك دائما بلحظات التضحية والوفاء والانتماء. كل شهيد محفور اسمه للأبد ليس فقط في ذاكرة وطنه، ولكن أيضا في لوحات أنيقة بإبداع خطي متناسق لكي يراه كل زائر ويتأمل بطولاتهم ويُلهم من شجاعتهم.

أما السياق الخارجي للنصب التذكاري فقد تشكل خلاله حديقة للشهداء زرع فيها مجموعة من الأشجار عددها مطابق لعدد شهداء تركيا، شهداء يوم 15 يوليو يوم "الديمقراطية والوحدة الوطنية". كل شهيد له شجرة تحمل اسمه فاكتملت الحديقة بمائتين وخمسين شجرة. هنا تتدفق رسالة رمزية جديدة فقد تحول الشهيد ليس فقط إلى ذكرى أو اسم محفور على جدار، ولكنه أصبح ركيزة لرمزية استمرارية الحياة مُعبرا عنها بالأشجار الخضراء المزدهرة التي تحمل الثمار وآيات النمو ودلالات الاستمرارية وتأكيدات قوة الحياة وقيمتها.

حاولت أن أستشعر الفارق بين أب أو أم توجه للنصب التذكاري في تركيا ليقرأ اسم ابنه محفورا في ذاكرة الأمة للأبد، ويتلقى تهنئة الجميع على بطولته، وبين أب أو أم مصرية فقدوا أعز ما يملكون، فداء لمصر وكل ما تحصلوا عليه في ذكرى استشهادهم تأكيداً أن ابنك "خائن" شارك في "الوكسة".

لا أستطيع أبدا وأنا أبدي إعجابي الشديد بمنطق وعمق النموذج التركي لتكريم شهداء ليلة 15 يوليو 2016 لمنع مسار الحرية والديمقراطية والعدالة من الارتداد، أن أتوقف عن التألم لحالة شهداء بلدي مصر الذين سقطوا في ثورة 25 يناير أعظم ما حدث في مصر في عصرها الحديث. نسينا أو تناسينا الشهداء واُجبرنا على أن ننسى ميدان التحرير. لم يعد خافيا على أحد أن هناك جهداً منظماً لإعادة تشكيل الوعي المصري حتى يسقط تماما أي قيمة معنوية أو إنسانية أو نضالية لثورة 25 يناير 2011. انتهت كل المبادرات لتخليد ثورة وشهداء يناير مع الجهود المكثفة الرديئة التي زيفت الوعي الجمعي للمجتمع المصري بحيث يقبل قطاع كبير منه أن تتحول ثورة 25 يناير الى خطيئة وتسمى نكسة أو وكسة 25 يناير.

تدريجيا، لم يعد لميدان التحرير قيمة، وحتى المثقفين والكتاب والمنظرين وأساتذة العمارة والعمران وجهاز التنسيق الحضاري ونقابة المهندسين (شعبة العمارة) وجمعية المعماريين فكلهم مع سبق الإصرار والترصد نسوا أو تناسوا التحرير. وكل الأطروحات الخاصة بمستقبل الميدان كفضاءاً عاماً للشعب وأرضاً لتمجيد شهداء يناير، تم اغتيالها وصمتوا عن موتها جميعاً صمتاً مُخجلاً. نعم ففي الوقت ذاته الذي احتفلت فيه تركيا بالتكريم الرمزي العميق لشهدائها، لم نتجاهل نحن فقط شهداء ثورة 25 يناير، ولكن تدريجياً وعبر خمس سنوات من تزييف الوعي أسمينا ثورة يناير "وكسة يناير" وأسمينا شهداء يناير "خونة يناير".

حاولت أن أستشعر الفارق بين أب أو أم توجه للنصب التذكاري في تركيا ليقرأ اسم ابنه محفورا في ذاكرة الأمة للأبد، ويترحم عليه ويفخر به ويتلقى تهنئة الجميع على بطولة ابنه الشهيد، وبين أب أو أم مصرية فقدوا أعز ما يملكون، فلذة أكبادهم، فداء لمصر وكل ما تحصلوا عليه في ذكرى استشهاد أولادهم وبناتهم كل عام فقط تأكيداً أن ابنك "خائن" شارك في "الوكسة". نعم خائن لا يستحق نصب تذكاري ولا لوحة ولا اسماً منقوشاً في أي مكان. عندما تتأمل متعمقاً في هذه المفارقة ينتابك شعوراً ثلجياً مقبضاً مخزياً لا تخففه الدموع لأنه أعمق من الحزن وأقسى من الألم وأدمى من نريف كل الجراح. نحن أكبر مؤامرة على أنفسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.