شعار قسم مدونات

العالم والسلطان (5)

blogs - إمام مسجد

"قد يقترن بالحسناتِ سيئاتٌ: إما مغفورة أو غير مغفورة. وقد يتعذَّر أو يتعسر على السالك سلوكُ الطريق المشروعة المحضة إلا بنوعٍ من المحدَث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعمًلا.  فإذا لم يحصل النور الصافي: بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظُّلْمَة = فلا ينبغي أن يعيب الرجلُ وينهى عن نور فيه ظُلْمة، إلا إذا حصل نورٌ لا ظلمةَ فيه.  وإلا فكم مِمَّن عَدَلَ عن ذلك = يخرج عن النور بالكلية إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظُّلْمَة".

ابن تيمية.

(1)

لقد لاحظنا في الحلقة السابقة حول النظرة التيمية للسلطة ومَدَيات التعامل معها، واشتراطاته؛ ما أشرنا إليه من مدخلية العامل الزمني والفوت التاريخي المؤثّر في نظرة ابن تيمية للتعاطي مع السلطة. فمع تشديد ابن تيمية في الاشتراطات التي وضعها للتعامل مع السلطة الجائرة: إلا أننا لاحظنا كيف توسّع ابن تيمية في النظر المصلحي للتعامل مع السلطة لإنفاذ الحق وتقليل الشر، وإفساحه المجال للتعامل مع واقع شائك مختلط ملوّث بالاعتماد على نية الإصلاح ومحاولته. ذلك الطابع هو الذي جعل ابن تيمية لا يتبنّى طريقة المنع المطلق من الدخول على السلطان الجائر، وإن كان أكثر السلف – تقريبًا – قد انتهجوها، وإن كان شيخ الإسلام نفسه يتفهّم أسبابها وسياقها.

ابن تيمية عاش عصرًا من أشد عصور الانحطاط الإسلامي، حيث الانقسام السياسي الواسع بين المسلمين، وواقع غزو المسلمين في عقر دارهم، وانكشاف بيضتهم، من قبل التتار الذين قضوا على ما تبقى من خلافة العباسيين، ما عاد بالضرورة على الواقع الشرعي.

(2)

 ومن هنا تنشأ المفارقة التيمية السلفية. المنظور السلفي التيمي – الذي ألححنا عليه في الفصل الخاص به من «ما بعد السلفية» -؛ لا يقتصر على مجرد تقليد السلف أو جمع أقوالهم وصياغتها، بل يصوغ ويطوّر، أيضًا؛ نظريات ومواقف جديدة، من فسيفساء سلفية، قد تخرج بنتائج مخالفة لجمهرة من السلف، أو حتى ليست واردة عنهم؛ في معمار سلفي يجيد توظيف وإعادة بناء التصورات والمفاهيم ومن ثَم الحركات.

فإننا لا يمكننا أن نسوي بين تأصيل ابن تيمية السابق ذكره في المقال الفائت، وبين موقف المانعين من السلف من الدخول على السلطان، وعلى رأسهم أحمد. فلا نتصور أن أحمد يجيز تولي الوزارة لسلطان ظالم لأجل تقليل أضراره، ولو اتحدت الصورة في الظاهر مع بعض المظالم، كما قدَّمنا من التأصيل التيمي.

(3)

الذي يبدو من تلك المغايرة بين المنظورين: أن واقع السلف القديم، وبخاصة أهل الحديث ودوائرهم القريبة من الفقهاء والصوفية، الذي كان يؤثر السلامة والانعزال، وترجيح جانب مصلحة الفرد الدينية والدنيوية على الطموحات العمومية غير الواضحة ولا المؤكدة؛ كان سببه البساطة النسبية لذلك الواقع. فرغم كل المخالفات والممارسات غير الشرعية فإن السياق الديني العام كان ظاهرًا في الدولة والمجتمع. وهذا هو الأمر الذي بدأ يخفت وينسحب بشدة وضراوة منذ منتصف القرن الرابع تقريبًا. لم يكن الوضع على ذلك النحو من التعقّد الشديد الذي عاشه ابن تيمية، وسبقه بفترة، والذي يستمر حتى الآن بصورة مماثلة أو أثقل، مما يجعله أقرب إلى روح الشريعة في التعامل مع واقع مغاير بالكلية.

ابن تيمية، هو الفقيه السني المجدد، بإمكانات استثنائية – أشرنا إليها في المقال السابق – الذي عاش عصرًا من أشد عصور الانحطاط الإسلامي على مختلف الأصعدة. بصورة أو بأخرى يعتبر ابن تيمية – بنظري – لطفًا إلهيًّا يعطينا إمكانية النظر في واقع شبيه بواقعنا، بإمكانات علمية وشخصية مميزة، تجسر الفجوة التي بيننا وبين الأئمة الأولين وعصرهم المختلف. ولولا ذلك لواجهنا إشكالات علمية ومنهجية كثيرة في التعامل الشرعي مع الواقع، الديني والدنيوي.

(4)

الإدراك للفوت الزمني والتاريخي الذي أدركه ابن تيمية، واستعملناه ها هنا لتقديم نموذج تفسيري لرؤية ابن تيمية حول التعامل مع السلطة الظالمة في عصور الانحطاط؛ ستكون مدخلًا مناسبًا لنا، كي نستعمله نحن أيضًا بدورنا، لنواصل السيرورة التي خطاها ابن تيمية بعد موقف المانعين.

نقول إن ابن تيمية عاش عصرًا من أشد عصور الانحطاط الإسلامي على مختلف الأصعدة. فعلى الصعيد السياسي، حيث الانقسام السياسي الواسع بين المسلمين، وواقع غزو المسلمين في عقر دارهم، وانكشاف بيضتهم، من قبل التتار الذين قضوا على ما تبقى من خلافة العباسيين، فضلًا عن الصليبيين، ما عاد بالضرورة – في ظل ذلك التشظّي والصراع – على الواقع الشرعي، ولو ما كان شكليًّا منه؛ بالضرر الشديد. حتى ظهر الحكم المؤسسي بغير الشريعة لأول مرة في ديار الإسلام، كما في (الياسق) الذي حكم به التتار ومن تلاهم من متأسلمي المغول ثم بعض المماليك، وذلك فضلًا عن أنواع المكوس والضرائب والسلوم والأعراف. والأمر نفسه على الصعيد الديني، حيث شيوع التقليد الفقهي، وتأطره في صورة مؤسسات وأوقاف ومدارس تشبه النقابات، وانتشار التصوف الخرافي، وشيوع الأنظمة الباطنية منه، وغلبة التفلسف، والمذاهب الكلامية في صورة منظمات عقدية. وجميع ذلك كان من الطبعي أن يعود بآثاره الوخيمة على المجتمع الإسلامي.

ببساطة: كل ذلك لم يكن موجودًا في عصر السلف المانعين من التعاطي مع السلطة الجائرة بإطلاق، الذين كان أحمد أبرزهم – وآخرهم زمنيًّا تقريبًا، لاحظ!

نظرية ابن تيمية عن تقصّي النور، مهما كان؛ في الظلمة، وأن للنور الخالص أحكامًا، وهو متعذر، وللنور الذي فيه ظلمة أحكام؛ فإنه خير من الظلمة التي لا نور فيها. فالحالة تشبه – لمن تأمّل – موقف ابن تيمية من هجر المبتدع، وكيف مارس الشيخ عملًا إصلاحيًّا ليطور – يتجاوز؟ – تراث السلف من أهل الحديث في التشديد فيه، حيث وجد الشيخ – بوضوح – أن ذلك المبنى بهذا الإطلاق والتعميم لم يعد له موضع في واقع تعتبر فيه البدعة: الإسلام الرسمي والشعبي في كثير من المواقع والأحيان، ولو جزئيًّا، بحيث يستحيل معه التعامل من موقع النقاء الأول.

إذن: في ظل ذلك الفساد السياسي والديني والأخلاقي والاجتماعي: المتفاقم؛ تتفاعل مقاصدية ابن تيمية ونظرته المآلية والمصلحية الشرعية السياسية، وتتعاضد: لأجل صياغة موقفه من التعاطي الراشد مع السلطة الجائرة، بشرط التمكن من، وإنفاذ: بعض المصالح، ودرء أو تقليل: بعض المفاسد، التي ترجح على مفاسد أخرى أعظم.

(5)

ذلك الإدراك للفوت الزمني، والتاريخي: الذي أدركه ابن تيمية، واستعملناه هاهنا لتقديم نموذج تفسيري لرؤية ابن تيمية حول التعامل مع السلطة الظالمة في عصور الانحطاط؛ ستكون مدخلًا مناسبًا لنا، كي نستعمله نحن أيضًا بدورنا، لنواصل السيرورة التي خطاها ابن تيمية بعد موقف المانعين، بل وكثير من المجوزين للدخول على السلطان الجائر، لنقدم وجهة نظرنا ورؤيتنا في طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين العالم والسلطان الجائر في ذلك العصر. ولكن هذا في الحلقة المقبلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.