شعار قسم مدونات

فرقاء الدرب رفقاء المصير

blogs صداقة

لنتخيل مركبا على وشك الغرق. المصير الذي ينتظر جميع من في هذه المركب لا يفرق بينهم على أساس اللون أو الاعتقاد أو الطائفة، أو أي شكل من أشكال الانتماءات التي تقسم الناس. ببساطة ذلك هو معنى "المصير المشترك"، إنه شيء لا يكترث لجميع أشكال الاختلافات.

 

و في مجتمعاتنا التي تعج بالاختلافات الى الحد الذي يعطي وهما بأن هناك "مصائر مختلفة" نحن في الواقع نواجه مصيرا مشتركا بذلك المعنى. بل إن جميع أشكال التباين والاختلاف والانقسامات التي نعيشها هي بحد ذاتها- لسخرية القدر- تنتج مصيرا مشتركا. فأن يعيش المجتمع حالة من التفكك يعني أنه يواجه المصير نفسه، على الرغم من الانطباع الخاطئ الذي قد توحي به كلمة "التفكك".

 

إذن، قضية المصير المشترك لا تقتصر على الاعتراف بوجود هذا المصير، أو على إدراك ذلك، بمعنى أن الاختلاف حول المصير المشترك أو عدم الوعي به لا يغير من الأمر شيئا. إنه أمر لا يتوقف على رغبة الناس ولا حتى على إرادتهم.

 

هو أمر لا يتعلق فقط بمشكلة التعايُش بين المكونات المختلفة والمتناقضة، وإنما بضرورة العمل وأحيانا النضال المشترك من أجل قضايا تحدد مصير الجميع. فالتعايش ليس شيئا يحدث لوحده، إذ لابد من نظام أو إطار عام يجعل منه أمرا ممكنا، وهذا ما يحتم العمل المشترك بين المكونات المختلفة. أي أن قضية التعايش هي في الواقع قضية ثانوية.

 

يمكننا أن نتكلم عن التعايش مثلا في ظل دولة قائمة بها دستور وقوانين ومؤسسات، ولكن في غياب الدولة بدستورها ومؤسساتها قد لا يوجد الإطار الذي يسمح بالتعايش. ولذلك فإن قضية الدولة والمؤسسات هي قضية أكثر أساسيةً من قضية التعايش، وهي تتطلب عملا مشتركا.  

 

إن السؤال المتعلق بالمصير النهائي للإنسان هو سؤال وجودي معتبر بلا شك. ولكننا هنا بصدد قضية تتعلق بتحديد "المصير المشترك" هنا والآن.

لنفترض أن تلك المركب التي توشك على الغرق كانت تحمل بعضا أن أولئك الذين يعتقدون أنهم من "الفرقة الناجية" التي تملك مصيرها في يدها، بحيث أنه حتى لو غرقت المركب فإنه ليس هناك مصيرا مشتركا إلا بالنسبة لأعضاء الفرقة الوحيدة الناجية ما بعد الموت. وهنا نواجه مشكلة في لب الموضوع: من الذي يحدد ماهية المصير المشترك؟ ويمكن أن يكون الأمر أكثر سوءا كأن يقول البعض: أن تغرق المركب هذا ليس هو المصير.. أن نموت جميعنا هذا مجرد شيء مقدّر ومكتوب والموت نفسه ليس شيئا.

 

على أرض الواقع نعيش هذه المشكلة في صيغة الأسئلة التالية: ما هو الشيء الذي يجمعنا؟ أو هل هناك شيء يجمعنا أصلا، هل هناك "مصير مشترك"؟

 

هل المصير المشترك هو الحياة الواقعية التي نعيشها الآن وما يوجهنا فيها جميعا، أم هو أمر يتعلق بما بعد الحياة. إن السؤال المتعلق بالمصير النهائي للإنسان هو سؤال وجودي معتبر بلا شك. ولكننا هنا بصدد قضية تتعلق بتحديد "المصير المشترك" هنا والآن، ليس لأننا لا ينبغي أن نفكِّر فيما وراء الحياة، ولكن بما أننا نوجد هنا في هذه الحياة، نحن معنيون بها لهذا السبب بكل بساطة. بمعنى أن سؤال الحياة الراهنة على أهميته، هو ليس خصما على السؤال الوجودي المتعلق بما بعد الموت.

 

 إن الامر لا يتعلق بالفلسفة وإنما بالسياسة. فالمشكلة التي أريد التعبير عنها هي أننا نعيش مجتمعات ما تزال تعاني من اختلاف في معنى "المصير المشترك" وفي تقدير قيمة الحياة التي نحياها الآن. هذا الاختلاف ينعكس سياسيا على أرض الواقع من خلال اختلاف أولويات الناس: على سبيل المثال هل المشكلة الأساسية هي مشكلة العدالة الاجتماعية أم هي سفور المرأة؟ وهل مهمة الحكومة هي سوق الدولة الى الجنة أم هي تحقيق حاجات الناس الأساسية المتمثلة في الأمن والعدل والحرية..

هل قلت الحرية؟ من الذي قال إن مهمة الحكومة هي تحقيق الحرية، بل من قال إن الحرية هي من حاجات الناس الأساسية؟ هكذا نجد أنه لا يمكننا الكلام عما نعتبره المهام الأساسية للدولة دون أن يقفز الى أذهاننا موقف أولئك الذين يخالفوننا الرأي حول هذه المهام، وهذا هو موضوعنا الأساسي: كيف يمكن خوض معركة "المصير المشترك" في مجتمع لا يتفق في أولويات الحكومة.

 

هذا مجرد مثال، وليس الغرض منه تأكيد ما هو معلوم للجميع من وجود هذه الاختلافات، وإنما الإشارة الى المأزق المتمثل في أن معركة المصير المشترك يجب أن تضم جنبا الى جنب هذه الفئات المختلفة. مثلا لكي نحارب الاستبداد يجب أن يناضل الجميع من أجل الحرية، ولا يسعنا تجاهل أولئك الذين لا يشاركوننا نفس التمجيد للحرية.. لا يمكننا أن نضعهم في خانة "أعداء الحرية" ولا حتى في خانة غير المكترثين لأمرها ثم نواصل معركتنا، لأن الصراع بدون "رفاق المصير" هؤلاء قد يكون صراعا خاسرا منذ البداية.

 

لأمر ليس من قبيل التسامح والتضامن والتآخي كشيء نقوم به عن طيب خاطر، ولا حتى من قبيل الواجب بالمعنى الأخلاقي لهذه الكلمة، وإنما هو أمر تمليه ليس فقط المصالح.

الموقف من الحرية ليس هو المثال الوحيد للاختلاف، هناك أمثلة أُخرى كثيرة للاختلاف وللصراع حتى داخل الاتجاه الأيديولوجي الواحد: صراع إسلامي- إسلامي، او علماني- علماني، كل ذلك داخل الصراع الأكبر إسلامي-علماني، داخل صراع أكبر سلطة – معارضة، داخل صراع أكبر تقف فيه السلطة والمعارضة -نظريا -جنبا إلى جنب أمام مشكلات التخلف والنهضة بأشكالها المختلفة. والقضية هنا ليست كما أسلفت في وجود هذه الاختلافات، وإنما في وحدة المصير والتي تحتم العمل المشترك رغم وجودها. والأمر ليس خيارا نريده أو لا نريده، وإنما هو في حالات كثيرة ضرورة وواجب، وهنا تكمن المشكلة. أن يجد الإسلامي مصيره مرتبطا بمصير العلماني، والعروبي مصيره مرتبط مع الأفريقي، في بلد مثل السودان يعاني فيه الجميع، رغم الاختلافات والانقسامات. وبالأحرى إن هذه ليست هي المشكلة، وإنما هي الحل، فهذه تسمى مرحلة "الوعي بالمصير المشترك".

 

وفي حالة مثل السودان لا يمكن لإنسان دارفور أن يقرر مصيره بمعزل عن إنسان وسط السودان أو الشمال أو الشرق، لأن الجميع يعانون من نفس المشكلة: مشكلة الحكم في السودان. وفي ظل تشظي الوعي الذي يشهده السودان تتجلى مشكلة "المصير المشترك" كشيء يفرض نفسه على الجميع في أرض الواقع ولا يكترث للأطر الوهمية التي يعزلون أنفسهم داخلها. فالمحصلة النهائية لمشكلة الحكم في السودان هي واحدة وتحيط بالجميع بالقدر نفسه، لأن التردي الذي أصاب مناحي الحياة المختلفة في البلاد لا يميز بين الخصوم والأعداء، وعندما ينهار الوضع، فسينهار على رؤوس الجميع بلا استثناء.

 

إن قضية الوعي بالمصير المشترك هي أبعد ما تكون عن مجال الأخلاق وفضائل الأعمال، إنها شيء أكثر جديةً من ذلك. فالأمر ليس من قبيل التسامح والتضامن والتآخي كشيء نقوم به عن طيب خاطر، ولا حتى من قبيل الواجب بالمعنى الأخلاقي لهذه الكلمة، وإنما هو أمر تمليه ليس فقط المصالح وإنما المفاسد التي تهدد حياة الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.