شعار قسم مدونات

المنتصرون

blogs - الفلسطينيون في الأقصى
عندما يقترب يومي، لو أحسست به قبلها فسأنادي على ولدي وأقول له:  يا بني، قد عاشت أمك الدنيا وخبرتها مبكرًا قبل الصغار، سأقول شاهدت صديقتي الصغيرة جدًا الهشة جدًا وهي تموت، بث موتها على الشاشات وأصبح متاحًا للجميع، هذه الصديقة التي لم ترض أن تأكل الشاورما لأنها تأخرت على أمها كما يليق بسندريلا صغيرة قد دق موعدها، شاهدت موتها بعيني وهي تنادي في ألم "الله ..الله".
 
يا بني قد عاشت أمك لحظات ثورة باهتة، سقط تحت قدميها قنبلة غازية وحاولت أن تهرب فتعثرت بها واختنقت حتى أنقذها شبح أو إنسان لم تعرفه لأنها لم تكن ترى وقتها، حضرت وعاشت قتل أشخاص أقرباء أعزاء وما ظنته يحدث للآخرين فقط قد حدث لها.
يا بني في الغربة رأت أمك السوريين -أعز الناس وأكرمهم- بلا مأوى ولا طعام، رأيت أيتاما وأيتاما وأيتام، بعضهم أكلت الحرب أطرافهم، وبعضهم قاسوا الجوع والبرد، وبعضهم ماتوا وقد تجمدوا في العراء..

يا بني حضرت أمك عدة مجازر كانت في محيطها، رأت الناس وقد أسلموا أرواحهم بفعل الرصاص وهم يتنقلون من يد ليد حتى يصلوا إلى مستشفى ميداني صغير إمكاناته تقتضي موتهم فورًا، يا بني رأيت الفراق والغربة والشتات، نسيت أشكال أصدقائي وأقربائي. أخبرتني أمي عن قريب فقلت من هو؟ فقالت لا تعرفيه؟ قلت لا؟ وفي النهاية عرفت أنه ابن خالي، ولد وكبر ودخل المدرسة وأنا لم أره ولم أحضر له شيئا..

لا أعرف أحدًا من هناك فأقول
لا أعرف أحدًا من هناك فأقول "انتصرنا"، لكني أقول "انتصروا"، ولربما ننتصر يومًا، أو تنتصر أنت وجيلك مثلما انتصروا.. يوم انتصر أهل القدس، لم يكن نصرًا لدولة، لم يكن نصرًا لجماعة.

زف أخي الكبير الذي عشت معه صولات وجولات في "الضرب على القفا" و"شد الشعر" و"فك التوكة"، زف بدوني، لم أعرف عروسه ولم أرها أبدًا، رزق بطفل يشبهه تمامًا، لا يعرفني إلا كصورة باهتة عبر المحمول، لا يعرف عني شيئًا سوى أني المرأة التي تخرج له لسانها عندما تراه فيبادلني "إخراج اللسان" بدوره، لم أر طفله، وعندما يأتي أخي على بالي لا أتذكر ما لم أعشه، لا يأتي على بالي زوجته ولا طفله، أخي لم يتزوج بعد.. أوه لقد تزوج وأنجب وطفله في العامين الآن..

عشت كل هزيمة ممكنة، وكل خسران مبين، بلا أمل في نصر قريب أو بعيد، نجاتي أنا من الموت حتى اللحظة هو محض صدفة وقدر.. لكنني يا بني عشت نصرًا واحدًا لن ينقضي.

أما أختي الأصغر التي عشت معها أسمى الخناقات الأخوية حول ملابسها التي سرقتها أو طرحتى التي أخذتها بدون علمي، فرزقت بثلاثة أطفال لم أر إلا واحدا، ثلاثة أطفال شديدي التهذيب، ينادوني حضرتك يا خالتو أروى وأنا أجيب "من أنتم؟".

أخي الصغير، تخرج وقد تركته يصارع أمي في مراهقته، يا دوب في بداية الثانوية العامة، اليوم تخرج من كلية الهندسة ودخل الجيش ويعمل براتب محترم يؤهله ليفتح بيتا ويتزوج.. يتزوج؟ الطفل ذو الشارب الأزرق المخضر يتزوج؟

خيباتي وهزائمي يا بني صاغتني، أدركت أن الدنيا صغيرة جدًا، بكيت طويًلا وقلت مائة مرة أريد أن أموت لا أمل.. سأقتل في بلدي وأشرد منها، سأهان في كل حين، إن خرجت فسأجد من يعاملني بعنصرية بالغة ولن أستقر يومًا في مكان ما لأنه مهما عز ليس مكاني يمكن أن أطرد منه إن قرر "صناع القرار كذلك". فهمت أننا نحن العامة حشرات، نسحق حين يريدون، نحن أشياء تتحكم بنا السلطة، ليس لنا قرار ولا سلطة..

يا بني عشت كل هزيمة ممكنة، وكل خسران مبين، بلا أمل في نصر قريب أو بعيد، نجاتي أنا من الموت حتى اللحظة هو محض صدفة وقدر.. لكنني يا بني عشت نصرًا واحدًا لن ينقضي، يبدو قصيرًا بمنظور الزمن، إلا أنه طويل عريض كبير بمنظور الروح، نصرٌ كلما استبد بي يأسي وفقدت آمالي تذكرته وقلت يوجد احتمال.
 
يوم انتصر أهل القدس على المحتل، ودخلوا الأقصى مهللين مكبرين منتصرين، لا أعرف أحدًا من هناك فأقول "انتصرنا"، لكني أقول "انتصروا"، ولربما ننتصر يومًا، أو تنتصر أنت وجيلك مثلما انتصروا.. يوم انتصر أهل القدس، لم يكن نصرًا لدولة، لم يكن نصرًا لجماعة، بل كان نصرًا خالصًا للناس وكما تعرف هم السلاطين والسادات والأمراء.. هذا ليس نصرًا عاديًا، هذا انتصار لكل مهزوم، ونحن يا ولدي استحققنا نصرًا وحيدًا نلمحه ولو مرة من بعيد. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.