شعار قسم مدونات

البذخ في الزواج.. عادات تدفعُ الأجيال ثمنها

blogs خاتم زواج
للزواج عند كل شعب عادات وتقاليد تختلف طبقاً للبعد الجغرافي والموروث الحضاري والثقافي. تحكمها قوانين دينية واجتماعية متوارثة تضفي الصفة الشرعية والرضى على قران شريكين متلازمين مدى الحياة، إلا أنها تتفقُ في تقاليد المغالاة في المهور، والبذخ في تكاليف الزواج، وبالتالي ارتفاع مقلق لمعدل العنوسة.
الزواج شرعة الله وهو أقدس الروابط البشريّة التي تقوم على الرغبة والاختيار والرضا المشترك، وأحد أركان بناء المجتمعات وعماد الأسرة القويم التي هي أساس المجتمع، وهو وسيلةٌ لإشباع حاجات الإنسان العضوية كالجنس والأمومة والاستقرار، والشعور بالانتماء. حيثُ إن حرمان الفرد منها يؤدي إلى الكبت وبالتالي الاضطراب النفسي. ولهذا اهتم الإسلام بالزواج اهتماما كبيرا لأنه من الأمور التي تدعو إليها الفطرة، ووسيلة إلى تعاون الإنسان مع بني نوعه في عمارة الكون وتدبير المصالح وتبادل المنافع. وقد أراد الإسلام لهذه الرابطة أن تسمو فوق كل رباط فربطه بكلمة الله وسيّجه بكل ما جاء في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ارتقاء بها لتكون الأساس لخلافة الله في الأرض والتي اختار المولى عزَّ وجلَّ لها الإنسان كأعظم مخلوق وفضله على سائر مخلوقاته وكرمه بهذه المكرمة ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ البقرة: 30.

وقد حثنا ديننا الحنيف على الزواج، وإكمال نصف الدين وحفظ النفس من النزوات والانحراف، قال رسول الله علية أفضلُ الصلاة وأتمّ التسليم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء).وحول تيسير الزواج للشباب بعدم المغالاة في المهور، قال صلى اللهُ عليه وسلم: (التمس ولو خاتماً من حديد).

مما يؤسف له أن يتحول كثير منا في هذه المناسبات إلى النقيض تماماً عما كان عليه سلفنا الصالح من تيسير للمؤونة وقلة الكلفة والمساعدة المالية والمعنوية، وما نحن عليه اليوم من إسراف وتبذير ومغالاة وتفنّن في النفقات والمصروفات والأقساط والديون

وكعادة الإنسان التي جُبل عليها، نزل بهذه الرابطة المقدسة إلى أسفل سافلين، عندما جعلها مناسبة للتباهي والتفاخر والبذخ والتبذير. تحت سطوة تلك العادات والتقاليد العمياء التي لا‌ تمت بصلة قرابة للعقيدة لا‌ دينيا ولا‌ إنسانيا ولا‌ أخلا‌قيا ولا‌ بأي شكل كان، والتي تفرض مهورا باهظة، وتتّبع مراسيم أعراس بتكاليف مُفزعة، من شأنها تعكير عملية الزواج، وإدخال الشباب في قوافل الضياع. هذه العادات تأصلت منذ زمن، وعلى نحو تدرُّجي ولم تكن وليدة عشيةٍ وضحاها. فالبذخ والإسراف في الاحتفاء بالأعراس منذ القدم، دفع بالعائلات لطلب مبالغ خيالية من المتقدمين لخطبة بناتهم، للقدرة على مجاراة مراسيم الوسط المجتمعي. التي لم تعد تقتصر على الأثرياء والقادرين مادياً فحسب بل تسرب إلى فئات محدودة الدخل كبلت نفسها بحكم التقليد الأعمى، والغيرة الاجتماعية بالتزامات ومظاهر فارغة لا طاقة لها بها، فأوهن الإنسان أسس هذا الرباط فصار عبئا كبيرا على كاهل الأسر التي تحرص على تقديم الهدايا الثمينة وعديد من المظاهر التي تخالف الواقع المادي للأسرة بغرض "الفشخرة"، مما يحملها التزامات تثْقل ظهر الأزواج وبعض الآباء الذين لا يستطعيون توفير قيمة هذه الالتزامات وتفتح باب الديون على مصراعيه و تساهم في خلق الخلافات الزوجية فيما بعد.

وتنتشر ظاهرة البذخ في المناسبات العامة والخاصة، ففي حفلات الزواج تتمثل هذه الظاهرة في قصور الأفراح باهظة التكاليف، حيث كل من ينوي الزواج يبدأ في التفكير في أن يكون حفله أفضل من حفل فلان، وأن تفكر المرأة في أن يكون لبسها هي و بناتها وزينتها أفضل مما ظهرت به فلانة، وأن يكون القصر أفضل من الذي تزوجت فيه صديقتها، ناهيك عن العشاء الفاخر بكميات كبيرة، لا يأكل الناس فيه إلا كميات قليلة، ثم يذهب معظم ذلك الطعام إلى صناديق القمامة، هذه الحفلات التي ظاهرها الوجاهة، وباطنها تعسير يجر خلفه معضلات يصل بعضها بعضاً، يعاني منها المجتمع، فهناك الديون وغلاء مهور، التي أكثرت من العوانس والعزاب، إذ هي حجرة عثرة في طريق الزواج وجمع الرؤوس في الحلال، وإذا كانت المغالاة في المهور قبل الزواج سبباً عزوف الشباب عن الزواج.. وعنوسة فتيات، فإنها بعد الزواج ربما تكون سبباً للمشاكل والشقاق والخلافات الزوجية، وربما جرّت إلى الطلاق ومشاكل الانفصال، وتكون النهاية المؤسفة تشرد وتفكك وانهيار اجتماعي وأخلاقي.

كما أن هناك شيئاً آخر بدأ الناس يمارسونه، وهو أن تشترط العروس مكاناً معيناً لقضاء شهر العسل، والعريس سوف يكون أمام خيارين أمام هذه المطالب، إما أن يقبل ويتحمل كل التكاليف، أو أن يواجه مشاكل لا حصر لها وغالباً ما يكون نهايتها الطلاق، فهل هدفنا أن يعيش الزوجان في سعادة أم أن نزرع بذور المشاكل بينهما منذ اليوم الأول بإدخال الزوج في دوامة من المطالبات والديون والمصاريف التي تقلب سعادته بالزواج إلى العكس. إنها ليست إلا عبارة عن احتفال بالمظاهر الكاذبة وأدق تصوير على ذلك النساء اللاتي يتنافسن لحضور حفل الزفاف وتصرف الأموال الطائلة لأجل بضع ساعات في من الذي يعطي لوحة للبذخ ويتركون ما هو أهم عندما يتجاهلون تهيئة الزوجين للحياة المستقبلية، فتكون نتيجة هذه التكاليف الباهظة افتقار الشباب إلى الاستقرار النفسي الذي يمثل شرطاً حيوياً للنجاح في العمل والإبداع وزيادة الإنتاج.

أصبح الإنسان جاهلا متبعا لهواه، ظالما لنفسه، أفسد نعمة ربه وترك خطى نبيه صلى الله عليه وسلم جرياً وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. فعودوا لتعاليم سيد الأنام، وارتقوا بهذه الرابطة تسودوا وتصفو حياتكم وتكونوا قوماً صالحين

ومما يؤسف له أن يتحول كثير منا في هذه المناسبات إلى النقيض تماماً عما كان عليه سلفنا الصالح من تيسير للمؤونة وقلة الكلفة والمساعدة المالية والمعنوية، وما نحن عليه اليوم من إسراف وتبذير ومغالاة وتفنّن في النفقات والمصروفات والأقساط والديون. بَيْدَ أن ما ينبغي التأكيد عليه إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام من أن خير النساء والزوجات وأعظمهن بركة أيسرهن مؤنة وكلفة ومهراً. كما أن الله عز وجل قد ذم الإسراف في اثنتين وعشرين آية من القرآن، وعاب فاعله، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) الفرقان: 67، وقال عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف: 31.

إن الزواج سنة من سنن الحياة، لا تحتمل الإسراف الذي ينهب الجيوب، ويعبئ النفوس بشبح الهموم، فسعادة العروس ليست بكثرة ما تنفق من أموال للاحتفال بعرسها، غير أن المدعوين أو المعازيم هم المستفيد الوحيد من حفل الزواج، وهم أكثر من يهنأ به، فالحفل يقام لهم وليس للعروس أو زوجها، ثم في النهاية يخرج المدعوون من قاعة الحفل بعدد من الانتقادات والقيل والقال، ومهما كان مستوى حفل الزواج فإنه لا شيء يعجبهم أبداً، الحياة الزوجية لا تكون في هاتين الساعتين وقت الحفل، بل الزواج هو الأيام التي تأتي بعد ذلك، وهو كل العمر، ولا أنكر أن كل فتاة تحب أن تفرح وتهنأ يوم عرسها وتبدو بأكمل صورة، ولكن ما فائدة أن تفرح يوماً واحداً ثم تتحسَّر بقية سنوات زواجها حينما ترى زوجها يسدد ديون حفل الزواج لسنوات وسنوات. وما ذلك إلا لتلبية دواعي الاستعراض الاجتماعي وحب التقليد والمباهاة والظهور الاجتماعي والمحاكاة.

وهكذا أصبح الإنسان جاهلا متبعا لهواه، ظالما لنفسه، أفسد نعمة ربه وترك خطى نبيه صلى الله عليه وسلم جرياً وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. فعودوا لتعاليم سيد الأنام، وارتقوا بهذه الرابطة تسودوا وتصفو حياتكم وتكونوا قوماً صالحين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.