شعار قسم مدونات

ليتني كنت رجلا

blogs - woman
لا يخفى على أحد أن كثيرات عبر التاريخ تمنين في مرحلة ما من حياتهن لو كن رجالا، ليستطعن القيام بأمور كانت حكرا على الرجال كالدراسة، والسفر، والمشاركة في الحروب، وممارسة الرياضة وبعض المهن، أو حتى لا يتعرضن للتحرش، وأيضا ليكتبن بدون أن تربط كتابتهن تلقائيا بالخواطر والبوح، وتوسم بالطابع الرومانسي، وأحيانا كثيرة بالتفاهة والسطحية. وعلى الرغم من التغيرات الاجتماعية وانفتاح المرأة على كل المجالات في الآونة الأخيرة، إلا أن هذه الأمنية لا تزال تتردد في أذهان النساء.

فالعيش في بلد عربي سيجعل الأمنية حتما تطفو إلى السطح مجددا، بسبب المقارنة المستمرة بين أدوار الرجل وأدوار المرأة داخل الأسرة. فمعظم النساء اللواتي أعرفهن يتمنين لو كن رجالا لأنهن يرين الرجل كائنا محظوظا، فبينما هو يستمتع بكل ملذات الحياة، تتم خدمته من طرف المرأة أما كانت أو أختا أو زوجة أو بنتا.. بينما ترى الأقلية أن هذا هو الشكل الطبيعي للأمور. لكن هذا لم يمثل أبدا مشكلة بالنسبة إلي، بحكم نشأتي مع أب وأخ متعاونين للغاية ويقومان بالمساعدة في التنظيف والطبخ والتسوق والبستنة والاهتمام بأفراد الأسرة. إلا أني أذكر أول مرة راودتني فيها هذه الأمنية، حدث ذلك في السنة الرابعة الابتدائية، كنت أرتعب آنذاك من المتنمرين الذين كانوا يعترضون طريق الفتيات ويستمتعون بإخافتهن، فتمنيت حينها بصدق لو كنت ولدا قويا حتى أتمكن من إخافتهم واتقاء شرهم، ولكني حين تغلبت على خوفي وصرت لا أتوانى عن تسديد اللكمات والصفعات بقوة، فهمت أنه ليس علي أن أكون صبيا بالضرورة كي أكون قوية ومهابة. فنسيت أمر الأمنية تماما لسنوات عديدة. لكني عندما صرت شابة تعيش بمفردها بعيدا عن العائلة، أصبحت أقع في بعض المواقف التي أحس فيها بأفضلية الرجل، وأعد بحسرة الميزات التي يتمتع بها. 

تمنيت حينها أن أمسك بيده، أن أربت على ظهره برفق، أن أحضنه بقوة، المهم أن يعلم أنه ليس وحيدا، وأني بجانبه. لكني امرأة وهو رجل. ماذا سيقال عني؟ غير محترمة؟

صرت أتمنى لو كنت رجلا لأستطيع القيام بأمور بسيطة للغاية؛ أن أستمتع بالمشي في الشوارع الخالية في أي وقت بدون خوف، أن أركب الباص بارتياح، أن أستلقي على رمال الشاطئ وأسبح بدون أن أشعر وكأني أقترف ذنبا عظيما، أن أضحك في مكان عام بدون أن ألفت الأنظار، أن أسافر بمفردي بدون قلق، أن أستطيع النوم في خيمة في العراء، في غابة أو في شاطئ مهجور، أن أجلس في الحدائق العامة بدون التعرض للمضايقات، أن أجلس في أي مقهى بدون أن أتأكد أولا من أنه مناسب للفتيات، أن أركب دراجة نارية بدون أن يبدو الأمر غريبا، أن أتصرف على سجيتي مع الجنس الآخر بدون أن يساء فهمي. وأن أكتب، أن أكتب كما أريد بدون أن يسألني أحدهم: ألا تخجلين من والدك الذي يقرأ ما تكتبين؟ هل الرجال في قصصك حقيقيون؟

وكما في المرة السابقة، تحررت من الأمنية بعد أن توقفت عن الاكتراث، لأقتنع مجددا بأنه ليس علي أن أكون رجلا لأفعل ما أريد، وآمنت حقا بأن المرأة هي التي تضع لنفسها حدودا وهمية، وتلقي باللائمة على الرجل. لكن الأمنية عادت بشكل لم أتوقعه، حين تعرفت على شاب بشوش وطموح يعمل في متجر لبيع العطور ومستحضرات التجميل، ولأنه اكتشف من خلال محادثاتنا القصيرة أني قدمت من مسقط رأسه، وأفهم لهجته، وأعيش بمفردي بعيدا عن العائلة، وأشجع نفس فريق كرة القدم.. نشأت بيننا علاقة أخوية مبنية على الاحترام، فلم يحدث أن أساء إلي أو ضايقني، بل كان يحكي لي عن طفولته، وعائلته، كما شاركني أحلامه والتي كان من بينها أن يعمل بجد ليستطيع الهجرة إلى دولة غنية، ليجد عملا يمكنه من تأمين مستقبله ومستقبل عائلته، وليستطيع لاحقا العيش في دولة أوروبية.

كما كان يحرص أشد الحرص على التأكد من أني بخير ولا ينقصني أي شيء. وذات يوم ودعني بعد أن أخبرني بحماس بالغ أن مشواره ابتدأ وأنه سيغادر البلد بعد فترة قصيرة بمساعدة شخص ما. إلا أني وجدته في المتجر بعد مضي شهر على ذلك. كان يبدو عليه تعب شديد، وجهه كان شاحبا ووجنتاه غائرتين بشكل ملحوظ، ونحيفا للغاية. تصنعت ابتسامة وذهبت لتحيته. كان شخصا آخر غير الذي غادر، محياه كان يحمل آثار حزن هائل، كان مكسورا لكنه ابتسم في وجهي وسألني عن أحوالي، كان يتصنع القوة والثبات. لم أستطع أن أسأله عن سبب عودته وعن هزاله المخيف، كان منشغلا مع الزبائن ويبدو جليا أنه لا يريد الحديث عن الأمر. تمنيت حينها أن أمسك بيده، أن أربت على ظهره برفق، أن أحضنه بقوة، أن أسحبه من يده وأخرجه من المتجر وآخذه إلى الشاطئ، أو إلى مقهى، أن نتحدث كثيرا، أن أجبره على الحديث، أن نبكي سوية، المهم أن يعلم أنه ليس وحيدا، وأني بجانبه. لكني امرأة وهو رجل. ماذا سيقال عني؟ غير محترمة؟

فكرت أن صديقه سيقوم بمواساته قطعا، كما أنه رجل والرجال أقوياء وسينسى الأمر في النهاية. طلبت منه ألا يهتم بالأمر، وأخبرته أن كل شيء سيكون حتما على ما يرام، وتوقفت فورا عن مواساته عندما شعرت أنه يبتسم مغالبا دموعه، ثم غادرت. عدت بعد أسبوع ولم أجد سوى زميله، سألته عنه فألقى إلي بالفاجعة: – محمد توفي. مر أزيد من ثلاثة أشهر على وفاته الآن، ولا أحد يعلم حقا سبب الوفاة، وما زلت أفكر بحرقة أن الأمر كان بيدي، كان بإمكاني فعل شيء ما، أن أخفف عنه حزنه، أن أجمع له ما يكفي من المال فأصدقائي كثر، أن نسافر إلى مدينة جميلة.. ألا أكون ممن يتوقعون منه أن يبقى قويا. أقنع نفسي عبثا أن أجل وفاته ببساطة قد حان، وأنه لا قدرة لأحد على تغيير أي شيء.. أ يعقل أن يكون سبب وفاته أنه رجل؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.