شعار قسم مدونات

الحياد في الأزمات الأخلاقية

blogs - الحياد
لطالما بدت لي الساحة السياسية كغمامةٍ سوداء كبيرة، كُل شيءٍ فيها ضبابي، شبيهة بسرابِ الصحراء الذي يبدو للناظر كشيء، وعندَما تقتربُ منه لتلمسه يستحيلُ إلى شيءٍ مغايرٍٍ تماماً.. لهذا اتخذتُ دوماً الحياد في المسائل السياسية وأبعدتُ نفسي عنها وآثرتُ راحةِ عقلي وجسدي وقلمي..
وأومنُ أيضاً أن هناك الكثير والكثير مما لا يكشف للملأ، مؤامرات هنا وهناك، مسائلُ تنزلقُ من تحت الطاولات، وأخرى من فوقها دونَ أن تُرى..لا قضية معروفة الدوافع، ولا قرار سياسي واضح المعالم، ولا تحركات ذات معنى منطقي.. وكل ما يعلن عنه في وسائل الإعلام من دوافع وأسباب وتبريرات ليسَت إلا غطاء إعلامياً يهدفُ للمماطلة وتهدئة الأوضاع ظاهرياً حتى يتم إنجاز الأمور بهدوء من تحت الطاولات..

عندَما كنا أطفالاً علمونا ألا نحكمَ على أي قضية دونَ أن نسمعَ من كل الأطراف المعنية بها، ولكنهم لم يعلمونا كيفَ نحكم على قضية أغلب أطرافها إن لم يكُن كلهم مماطلونَ وكاذبون.. لهذا لَم أستطع يوماً أن أتخذ‌ طرفاً أدافعُ عنه وأستميتُ لأجله، ويدهشني ما أرى حولي من التعصب والانتماءات التي يُبديها البعضُ للبعض.. هكذا أرى السياسة في وطننا العربي.. صورة غير مكتملة المعالم.. ناقصة الأجزاء دوماً..

الحياد في قضايا القتل والاعتقال والتهجير والتدمير لا يجعلنا إلا شركاء في الجريمة، التغاضي عن الأحداث التي تحدث في الطرف الآخر من العالم وكأنها لم تحدث أصلاً لن يجعلها تختفي.. فإن أشحتَ بنظركَ بعيداً عن الدم، لن تأتي قوة خارقة وتمحوه

وأظنُ أنَ حالي هذا هو حال الكثيرين من أبناء الوطن الذين لَم يعودوا قادرينَ على لملمة كل أطراف القصة، ضاعت منهم الحبكة الأساسية وعلقوا في الفصلِ الأول من الحكاية الذي يتحدث عن مصطلحات حفظناها في الكتب المدرسية "وظيفة الحكومة، السلطة التشريعية، العلاقات الدولية، الحلف، الحزب.. الخ" تعريفات نحفظها غيباً وننسى كل شيء يتعلقُ بها بعدَ أن نطوي الصفحة وننهي الامتحانَ المدرسي الذي يجب أن ننجحَ به وإلا سيحكمونَ علينا بالفشل والغباء.

وبالرغم من الحياد الكبير الذي أتخذُهُ في الكثير منَ القضايا السياسية، إلا أنني أعرفُ وأؤمنُ جيداً بفطرتي التي خلقني اللهُ بها أنني ضدَ القتل الذي تقوم به الأنظمة دونَ حق، ضدَ قمع حرية الرأي وسجنِ الأقلام وخنقِ الأصوات، ضد حالات التهجير والاعتقال والاختطاف القسرية، ضدَ كُل ما يمس الأخلاق والإنسانية التي تنادي بها الدول وتنددُ بها أمام العلن ومن ثُم تستخدم سلطاتها علناً للقتل، ضدَ تغاضي المؤسسات والمنظمات عما يحدثُ أمام عينيها من قتل وقصف وتدمير بأسلحة محرمة دولياً بحجة عدم تواجد أدلة كافية، فالجثث المكدسة غير كافية، والإحصاءات بأعداد المعتقلين والمختفين والمقتولين غير كافية، الندوب والجروح في أجساد الأطفال غير كافية.. كل هذه الأدلة غير كافية..

يقول داني أليغييري في كتابه "الكوميديا الإلهية" أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية". الحياد في الأزمات الأخلاقية والإنسانية ليسَ خياراً شخصياً، الحياد في هذه الأزمات شبيه تماماً للمشاركة في تكوينها.. الحياد في قضايا القتل والاعتقال والتهجير والتدمير لا يجعلنا إلا شركاء في الجريمة، التغاضي عن الأحداث التي تحدث في الطرف الآخر من العالم وكأنها لم تحدث أصلاً لن يجعلها تختفي.. فإن أشحتَ بنظركَ بعيداً عن الدم، لن تأتي قوة خارقة وتمحوه من الوجود.. الحياد في الأزمات الأخلاقية هو الذي سيقود العالم نحوَ الهاوية.. ونحنُ الآن في طريقنا نحوها..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.