شعار قسم مدونات

عندما كنتُ فلسطينيًا

blogs - علم فلسطين
بعد أن باغتت عصابات الصهاينة أجدادنا العزّل سنة 1948، ضجَّت الشوارع بالعوائل المشردة ولم تكن تعرف أين ستقذف بهم عاصفة التهجير، وإلى متى سيلاحقهم قطعان اليهود، فلم يبغَوا شحذ أمتعتهم؛ أملا منهم بعودةٍ قريبة… بعضُهم اتَّخذ من الأردن وسوريا ولبنان محطة لهم، وبعضهم نزح إلى الضفة الغربية، وبعضهم أودت بهم الريح في البلاد المتناثرة، أما البقية فقد انتهى بهم الحال إلى غزة، ليبدأوا حكاية تهجيرٍ هو من أعجب وأفظع قصص التهجير في التاريخ! خرج الأجداد حسيرين من المال والمتاع والأرض، ناخين رحالهم في بلادٍ لا يعرفون شوارعها ولا سكانها وأسواقها، ظانًّين أن رحلة العذاب قد طوت صفحتها؛ ولم يكونوا يعلمون أن رحلة العذاب لم تبدأ بعد.
في غزة والضفة بدأ السكان يتموضعون في بقع قاحلة، سوى من بعض الخيام المترنِّح في مهب الريح، كانت حياة المخيمات أشبه بمسلسل إذلال يومي، فنظرةٌ واحدة من إحدى زواياها تشرح قسوة العيش، تدافع السكان أمام حمّام القرية الوحيد، وطوابير الأطفال أمام مؤونة اللبن المجفف وأكياس الأرز، وتكدس الناس حول موظف وكالة الغوث الدولية UN ذي اللون الأزرق، ليمنحهم بعض الطحين والعدس الداكن! كان الناس يعلمون جيدا أن بوابة العالم تمرُّ من وكالة الغوث، وأن وجودها يترجم الصورة المنقوصة للإنسانية العالمية، فترى من خلف هذا الشعار كمّ يأسهم ممن حولهم من الأشقاء. كأن الشقاء لم يُخلق إلا لهم؛ وكأن غزَّال البؤس لم يغزل البؤس إلا للاجئين.

إننا يا إخوة العروبة حينما نصرخ، نصرخ لعالمٍ ملغوم بالصمت، عالمٍ أشغلكم بفروع الدين وأنساكم قضايا الأمة الكبيرة، ألهاكم بدعوى الحضارة على حساب كرامة العربي وسؤدده، سحرونا بالحرية الفردية، ونسينا حبل العروبة إذ يسبحونه من تحت أرجلنا!

كانت وعود المراقبين الدوليين تحقن الصبر في أجساد الناس الذابلة أن عودتهم إلى ديارهم بدت أقرب، وأن عذابات الغربة ستنقضي حال الوصول إلى حلولٍ سياسية؛ لكن بمرور السنوات بدأت خيوط المؤامرة تتكشف، وأصبحت نداءاتُ العودة محضاً من الخيال. ومما عمق اليأس في قلوبهم هزيمة العرب في حرب 1967 فأصبح المسلمون يملكون 20 في المئة من أرض فلسطين فقط… بقي ما بقي، وضاع ما ضاع!

حينها فقد العرب بوصلَتهم وفقدت فلسطين هويَّتَها وأصبح سوط العذاب يكوي ظهر الفلسطيني أينما حلّ، فصار مطلوبًا لمخافر التحقيق، غريبًا في أروقة الجامعات، ملاحقًا في خطوط التجارة، مطرودًا على أعتاب المطارات، ومحظورًا من أي دعمٍ إنسانيِّ، وصارت الدولةُ الداعمة للفلسطيني تُقذَف بالإرهاب! والتهمةُ المبطَّنة هي بالطبع "معاداةُ السامية، وزعزعة أمن إسرائيل".

مرَّت السنوات وزاد زخم القضية في غزة والضفة، بقينا نقرع يقرعون الجدران، برصاصةٍ ثائرةٍ هنا، وتحركٍ شعبيٍ هنا أو هناك؛ إلا أن الاحتلال لم يرق له ذلك، فدفع بدباباته وجنوده المدججين إلى مخيماتنا، وقتل العشرات العزَّل من أبناء شعبنا، تحامينا بصدورنا العارية ولم نستسلم، فأحكم الاحتلال قبضته على غزة وفرض علينا حصارًا منذ 2006 إلى الآن فضاق بنا العيش وأصبحنا لا نجد غازًا نطهو به طعامنا.. ولا وقودًا نحرِّك به مركباتنا.. وانقطعت الكهرباء.. وانحبس الدعم الإغاثي.. ووصل الحال بالناس أن يبحثوا عن "الشمع" ليضيئوا منازلهم، فلا يجدوها.

دخل الشمع منازلنا فأُحرِقت عشرات البيوت بسببه ومات الكثير من الرضَّع بالحرق والاختناق… لم يقف الأمر على ذلك؛ ففي ظهيرة 27 ديسمبر/2008 كانت الحياة طبيعيةً، وكانت غزة أشبه بخلية نحل؛ ولكن ذلك لم يدم، ففي لحظة واحدة تحولت سماء غزة إلى كومة من النيران، صُعقنا بأطنان المتفجرات تدكُّنا، الكلُّ يركض ولا يدري أين يركض، بدأت نداءات الإسعاف تدوي في كل غزة. ساعةٌ من الذهول ولا أحد يعرف ما يجري، كانت أصعب لحظة تمرُّ على غزة منذ 1948، في ساعة واحدة ارتقى 420 شهيدًا وأصيب أكثر من 2000 مواطن.. كانت تلك الضربة إيذانا بعدوانٍ استمرَّ 21 يوماً، استشهد فيه 1417 فلسطينيا ودُمِّرت المئاتُ من المنازل والمصانع.

خرجنا من ركام الحرب، ولم نكد ننفض غبارها، وإذ بعدوان ثانٍ بعد 3 سنوات استمر 8 أيام، فارتقى 155 شهيدا.. انتهى العدوان وظننا أن به تنتهي عذابات الحرب؛ لكننا تفاجأنا بالعدوان الأشرس على الإطلاق، استمرّ 50 يوما أبيدت فيه مناطق جغرافية كاملة، حدثت مجزرة الشجاعية وراح ضحيتها 2174 شهيدا وأكثر من 10000 جريح وانمسحت عشرات العوائل من السجل المدني، واندكَّت عشرات الأبراج السكنية والتجارية!

ما يزيد من ألمنا، أن نرى تجربتنا المريرة في ثوبٍ سوري، ونرى إخواننا اليمنيين يموتون بصواريخَ عربية، وعصا الفرقة تقصم القلب السوداني، ونرى قطر الأصيلة تحاصَر بقرارٍ عربي وصمتٍ دولي، وغيرهم يذبَّحون على حدود دولنا الإسلامية.

عن صرخة المقاتلين في غزة حين يصرخون "موطني" فينشدُّ لها 5 مليون لاجئ حول العالم، و7000 معتقل. يصرخونها مرةً أخرى فيطمئن لها فلسطينيٌّ متصلِّبٍ على غرفة التأشيرة: ممنوع بتهمة اللجوء! عن ذلك الطالب المغترب، ووساده المبلل بدموعِ الحسرة على أهله ووطنه، عن الطفلِ الغزي ذي العشر سنوات حينما يشتعل شيب الفقر في رأسه ويُفطَم على "بوابير الغاز، والشموع، وجدول 4 ساعات للكهرباء فقط!".

إننا يا إخوة العروبة حينما نصرخ، نصرخ لعالمٍ ملغوم بالصمت، عالمٍ أشغلكم بفروع الدين وأنساكم قضايا الأمة الكبيرة، ألهاكم بدعوى الحضارة على حساب كرامة العربي وسؤدده، سحرونا بالحرية الفردية، ونسينا حبل العروبة إذ يسبحونه من تحت أرجلنا! انجررنا لهم حتى تقسَّمنا وأصبح قرارنا بأيديهم. إن الحبيس وسطَ الزحام يجب أن يصرخ ويصرخ حتى تلضم صرختُه أذن المعتصم، فعلمتم لماذا نصرخ يا إخوة العروبة؟

إن ما يزيد من ألمنا، أن نرى تجربتنا المريرة في ثوبٍ سوري، ونرى إخواننا اليمنيين يموتون بصواريخَ عربية، وعصا الفرقة تقصم القلب السوداني، ونرى قطر الأصيلة تحاصَر بقرارٍ عربي وصمتٍ دولي، وغيرهم يذبَّحون على حدود "دولنا الإسلامية".. إن العالم كلّه "مدينٌ" للفلسطيني والسوري واليمني وكلِّ عربي نازفٍ، بحصَّته من العذاب، مدينٌ لهم بما لاقَوه! ولا يُرَدُّ دَيْنُ الدماء والعذاب؛ إلا بتبديد الظَلمة، وعودة الغائبين لديارهم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.