شعار قسم مدونات

"غوانتنامو قصتي".. العقوبة الأولى

blogs سجن غوانتنامو

ضرب الطائر جناحيه ونزف وقد عاود الغناء فيما أناجيه أسأله وأُلِحُّ متسائلا: أيها الطائر الليلي ماذا عن الليل؟ الليل الذي قد سال عليَّ فابتلعته كما تبتلع السوائل. ثمّة أناسٌ في هذا العالم كُتب عليهم العذاب، فيما كتب على آخرين أن يكونوا معذبيهم.. أناسٌ بشعون، يجيدون التدمير، ولا يعرفون البناء.. إنهم ساديون، مرضى، لا يشعرون بالسعادة والنشوة إلا عندما يعذبون الآخرين.. لا يشعرون بأنهم أحياء إلا بموت الأبرياء.. إنهم أناسٌ وما هُم بأناس.

 

في شدّة الإرهاق والألم، حين كان لساني يعجز عن الكلام كانت عيناي تسألان: يا حارسي، معذبي ماذا عن ليل الإنسان! وإني لأسألك أيها الطائر الليلي السؤال نفسه: ماذا عن الليل؟ ليل الكائنات؟ الكائنات حينما تصبح وتظلّ وتُمسي وقد باتت حقلاً لتجارب العذاب، صارت أوعية للميكروبات والحقن المخدّرة.

 

وإني لأذكر جيداً أنه في فترة الأربعة أشهر الأولى في الزنزانة 40، جاءنا ذات نهار فريق طبي، نظروا إلينا وقال أحدهم بلا مبالاة: "جئنا لتحصينكم، لتطعيمكم، لتلقيحكم". وعندما أقبل أحدهم وبيده لقاح سألته: "ضد أي مرض هذا؟"، قال: "التيتانوس". فقلت له: أنا أخذت هذا التطعيم قبل أن أغادر الدوحة، وأخبرني الطبيب الذي قام بتطعيمي بأن ذلك التطعيم صالح لمدة خمس سنوات إلى عشر سنوات، فأنا لا أحتاج إليه، فقال: إنه لـ "التيتانوس" ولا بد من أخذه.

 

حرصت الإدارة الأمريكية على جعل غوانتانامو مقراً لاعتقال من وصفتهم بالإرهابيين لأهداف سياسية أفصح عنها مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون بقوله: "جاءت المشورة القانونية بأننا يمكننا فعل ما نشاء بهم هناك، فهم سيكونون خارج الصلاحيات القضائية لأي محكمة"

والحقيقة أنني كنت متوجساً من تطعيماتهم تلك، وكنت خائفاً أن يحقنونا بأمراض تؤثر على صحتنا مستقبلاً، لم أكن أثق بهم. ولكنهم أكدوا أنهم سيطعمون جميع المعتقلين ضد عدد من الأمراض التي ذكروا منها "التيتانوس". واستمروا في إجبارنا على تعاطي أقراص قوية جداً لم تتحملها أجسامنا الهزيلة، كانوا يصرون على أنها أقراص للوقاية من الملاريا ومن مرض السل. ومع إصرارهم ازدادت مخاوفي، فقالوا: إن لم تتعاطَ ما نأمرك به عن رضا وطيب خاطر، فستتعاطاه قسراً وكرهاً. قلت لهم: يمكن أن تعطوني إياه بالقوة ولكنني لن أعطيكم يدي حتى تطعموني، فقد أخبرتكم بأنني أخذت هذا التطعيم من قبل.

 

تشاوروا فيما بينهم وتكلموا مع الإدارة، ثم قرروا معاقبتي ثلاثة أيام حرموني فيها من كل الأغراض، ونقلوني إلى زنزانة خالية من كل شيء، حتى الحصيرة البلاستيك الصغيرة التي أستعملها للسترة في الخلاء صادروها.

 

طلبت الحديث مع المسؤول، فجاءني بعد فترة، وقلت له: "أنتم الآن تمنعونني من الصلاة، فهل الصلاة ممنوعة عندكم هنا؟"، قال: "لا، ليست ممنوعة"، فقلت له: "كيف؟ وأنتم تصادرون مني السترة ولا أستطيع الذهاب للخلاء، ولا أستطيع أن أصلي على الحديد، أحتاج إلى هذه الحصيرة على الأقل". عندئذٍ طلب مني مهلة ليتكلم مع المسؤولين الكبار، فلما عاد قال إنهم لن يعطوني أغراضي بما فيها الحصيرة الصغيرة إلا إذا قبلت التطعيم، فرفضت.

 

كانت تلك أول عقوبة أعاقب بها في غوانتانامو، القاعدة الخاصة للقوات البحرية الأمريكية التي تقع على الساحل الجنوبي الشرقي للجزيرة الكوبية، وتبلغ مساحتها116.55  كيلومتراً مربعاً من الأراضي والمياه الكوبية، وقد حصلت الولايات المتحدة على هذه القاعدة كغنيمة حرب انتصرت فيها القوات الأمريكية على القوات الإسبانية التي كانت تستعمر كوبا عام 1898 حسبما تشير إليه بعض الروايات، فيما تشير رواية أخرى إلى أن سلطة أمريكا على غوانتانامو تعود إلى عام 1903، عندما قبلت كوبا التخلّي عنها لجارتها الصديقة آنذاك كبادرة امتنان من الكوبيين على الدعم الذي قدمه الأمريكيون لهم أثناء مقاومتهم للمستعمر الإسباني وذلك مقابل إيجار سنوي يبلغ 2000 قطعة ذهبية، تبلغ قيمتها آنذاك 4085 دولاراً أمريكياً.

 

وبعد انتصار الثورة الكوبية طالب فيدل كاسترو الأمريكيين مراراً باستعادة الجزيرة، ورَفَض تسلُّم قيمة إيجارها، إلا أن الأمريكيين رفضوا طلب كاسترو استناداً إلى الاتفاقية القديمة، وكانت تلك نقطة خلاف رئيسة بين الدولتين.

 

وقد حرصت الإدارة الأمريكية على جعل غوانتانامو مقراً لاعتقال من وصفتهم بالإرهابيين لأهداف سياسية أفصح عنها مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون ممن عملوا مع وزير الدفاع الأمريكي السابق رامسفيلد بقوله: "جاءت المشورة القانونية بأننا يمكننا فعل ما نشاء بهم هناك، فهم سيكونون خارج الصلاحيات القضائية لأي محكمة".

 

وقد أكّد الرئيس بوش نفسه ذلك الأمر عندما أصدر أمراً عسكرياً رئاسياً في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2001 يعلن فيه أن إرهابيّي القاعدة ستحاكمهم لجان عسكرية خاصة لا تخضع للقيود المفروضة على المحاكم المدنية؛ كما أكّد أن هؤلاء لن يعامَلوا كأسرى حرب بل كمقاتلين خارجين على القانون؛ وبذلك أصبحنا مسلوبي الحقوق التي يمنحها القانون الأمريكي لغير المحتجزين في سجون تقع في الأراضي الأمريكية أو القانون الدولي، لأن الرئيس الأمريكي لم يعتبرهم أسرى حرب تسري عليهم اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949 التي تنص في مادتها السابعة عشرة على حقوق أسرى الحرب ومعاملتهم.

 

وقد كان هذا الموقف من الإدارة الأمريكية تجاه المعتقلين مفاجئاً حتى للأمريكيين أنفسهم، لمخالفته القوانين الأمريكية والدولية؛ وقد جادل كولن باول إدارته في هذا الخصوص، موضحاً لها مخالفة ذلك لما تسير عليه السياسة الأمريكية منذ أكثر من قرن من الزمن، كما أنه قد يؤدي إلى تقويض الحماية التي يتمتع بها الجنود الأمريكيون أنفسهم في ظل قانون الحرب، فضلاً عما قد يؤدي إليه من إضعاف الدعم الذي تلقاه أمريكا من الأوروبيين؛ إلاّ أن أياً من أفراد الإدارة الأمريكية لم يُعِرْ جدال باول أهمية، حيث كان صوتاً فردياً ضد تكتل عازم على انتهاك حقوق الإنسان.

 

إن عمليات التحرّي عن المعتقلين، واستجوابهم من قِبل المحققين الأمريكيين، كانت تفتقر إلى المهارة والدقة والحرفية، نظراً لأن من قاموا بهذا العمل في أفغانستان كانوا من الخريجين الجدد في مدرسة الاستخبارات العسكرية في ولاية أريزونا

وعلى الرغم من حرص الإدارة الأمريكية على مخالفة القوانين الأمريكية والدولية بشأن معتقلي غوانتانامو، إلاّ أن ذلك لم يمنع تلك الإدارة من تضليل الرأي العام الأمريكي والدولي بشأن ما يحدث في غوانتانامو من انتهاكات صريحة ومخالفات واضحة، حيث كان الرئيس الأمريكي يصرّح أمام وسائل الإعلام بالقول: "كمسألة سياسية، فإن القوات المسلحة للولايات المتحدة ستمضي في معاملة الأسرى بشكل إنساني؛ وذلك في مدى يتناسب ويتسق مع الظروف العسكرية، وبأسلوب ينسجم ومبادئ اتفاقية جنيف".

 

إن عمليات التحرّي عن المعتقلين، واستجوابهم من قِبل المحققين الأمريكيين، كانت تفتقر إلى المهارة والدقة والحرفية، نظراً لأن من قاموا بهذا العمل في أفغانستان كانوا من الخريجين الجدد في مدرسة الاستخبارات العسكرية في ولاية أريزونا، ولم تتجاوز فترة تدريبهم ستة عشر أسبوعاً، فضلاً عن اعتمادهم على مترجمين تم التعاقد معهم عن طريق شركات خاصة، وكان أغلبهم ضعيف المستوى عديم الخبرة العسكرية، إضافةً إلى وجود دافع الكسب المادي لديهم، ما دفع حلف الشمال بقيادة دستم إلى زج آلاف الأبرياء للحصول على المكافأة المالية.

 

جميع الذين كانوا معي ممن اعتُقلوا ونُقلوا إلى غوانتانامو لم يكونوا إرهابيين عكسما زعمت الإدارة الأمريكية وحاولت أن توهم العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.