شعار قسم مدونات

البوسنة.. الماضي الذي تسبب في دمار الحاضر

blogs - البوسنة
ولقد كنتُ كلَّما وقع نظري على مناظر تلك البلاد وراقني جمالُها الطبيعي، وسرَّني ما اشتملت عليه من محاسن الأشياء وطرائفها يبلغ مني الأسف ويذهب بي الجزعُ على تلك البلاد التي كانت محوطة بسيادة الأتراك مشمولة بحكمهم، وقد سُلِخَت منهم وتأمَّر عليها سواهم". كانت هذه هي كلمات ولي عهد مصر الأمير "محمد علي" من ضمن ما سطَّره عن البوسنة والهرسك في رحلته السياحية الصيفية التي قام بها إلى البلاد عام 1900، وهي وإن كانت كلمات تنم عن حسرة لفقدان حكم بلد جميل كالبوسنة إلا أنه كان ليتحسر بشكل أكبر لو رأى هذه البلاد بعد ما يقرب من قرن من الزمان وطلقات الرصاص والمدافع وقنابل الحقد الحارقة تبيد أهلها وتهدم مبانيها وتزيل جمالها الطبيعي.
تبدأ مأساة مذبحة البوسنة مع حصار القوات الصربية في أبريل من عام 1992 لمدينة "سراييفو" عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك الوليدة، وقيامهم باستهداف كل ما في أرض البوسنة من بشر أو حجر بالقتل والتدمير، ووقعت بناء على هذا التدمير الهمجي العنصري مجموعة من المذابح وجرائم الحرب ضد المدنيين العُزل منها مذبحة العاصمة التي راح ضحيتها أكثر من 11500 شخص، ومذبحة بلدة "سربرنيتسا" الحدودية الشهيرة التي وقعت في تموز-يوليو عام 1995 وراح ضحيتها أكثر من 8 آلاف مسلم.

اللغة العربية تمتعت بمكانة الصدارة في ذلك العهد من حيث كونها لغة للعلم بالإضافة لعدد المؤلفات التي كتبت بها، وقد نتج عن هذا المناخ العلمي أن ظهر علماء وشعراء بوسنويين اتخذوا من العربية لغة تأليفهم الرئيسية، كما أثَّر حب العربية في المجتمع البوسنوي في ظهور اللغة البوسنية بالحرف العربي.

كانت إبادة بناء على الهوية الدينية أي لأنهم مسلمون، وكانت التهمة الموجهة إلى رئيس البوسنة حينها هي محاولة إقامة دولة إسلامية في قلب أوروبا، فكان لابد من التخلص من هؤلاء المسلمين الذين يختلفون عن البيئة والثقافة الأوروبية عبر قتلهم وتدمير حاضرهم وتراثهم الرفيع الذي ظهر في العهد العثماني، وهي محاولات كانت قد سبقها من قرن من الزمان محاولات أخرى سجلها الأمير محمد علي في رحلته سالفة الذكر حين حكمت النمسا البوسنة وأخرجتها من تحت الحكم العثماني، فذكر الأمير المحاولات التي قامت بها الحكومة النمساوية لتنصير مسلمي البوسنة، وبعض من جوانب إهمال مساجدهم وتدميرها وبناء كنائس بينها، وقد نتساءل عن الوقت والسبب الذي جعل هذا الشعب السلافي يتحول إلى الإسلام مسببًا إزعاج ديني لجيرانه من غير المسلمين، خاصة بعد خروج البوسنة من تحت الحكم العثماني في القرن التاسع عشر.

متى ولماذا أسلم الشعب البوسنوي؟
وصل العثمانيون إلى أول أجزاء الأراضي البوسنوية عام 1386 وضموها إلى دولتها لتستمر عملية فتح أراضي البوسنة حتى اكتمال عملية الفتح في عام 1463 على يد السلطان "محمد الفاتح"، ويعتبر البوسنيين العرق السلافي الوحيد الذي تجاوز غيره من السلاف في أعداد من اعتنقوا الإسلام، فلماذا انتشر الإسلام بين البوسنيين بهذه الأعداد؟

تشير مصادر محلية بوسنوية وأجنبية إلى انتشار مذهب مسيحي في البوسنة والهرسك عُرف باسم المذهب "البوغوميلي" وذلك منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وهو المذهب الذي ظل باقيًا في البوسنة حتى قدوم العثمانيين في القرن الخامس عشر. ظهر هذا المذهب أول ما ظهر في بلغاريا على أيدي بعض المعلمين المسيحين وانتشر بين النصارى في المنطقة فوجد من اعتنق هذا المذهب في إيطاليا وجنوب فرنسا إلا أن البوسنة كانت معقل المذهب الرسمي خاصة بعد أن ضعف في فرنسا وإيطاليا، وقد احتوى المذهب على عقائد ساعدت على انتقال البوسنيين بشكل سريع إلى الإسلام بعد وصوله إليهم.

تأثر البوغوميليون تأثرًا كبيرًا بأفكار طائفة تدعى "الشمشاطيون" تتبع رجل دين مسيحي عرف باسم "بولس الشمشاطي" الذي كان يؤمن بوحدانية الله وبأن عيسى عبد الله ورسوله مثله مثل بقية الرسل وأنه إنسان لا إلهية فيه، وبناء على كتابات بعض المؤرخين فإن عقيدة بولس كانت أقرب إلى الإسلام من بقية العقائد المسيحية، وربما ساهم هذا السبب بشكل كبير في انصهار البوسنيين السريع في الإسلام بأعداد كبيرة، خاصة أن عقائد البوغوميلين (التي نظر إليها الكاثوليك والأرثوذوكس على أنها هرطقة) كانت ترفض عبادة "السيدة مريم" وكل أنواع رجال الدين، كما كانوا يعتقدون بأن التوجه بالصلاة لصور وتماثيل القديسين هو نوع من الوثنية، كما كانوا يُحرِّمون شرب الكحوليات وكانوا يصلون في اليوم خمس مرات، وإن كان هناك بعض الفروق بين البوغوميلين في البوسنة وفي غيرها من الأقطار.

ومع وصول الإسلام إلى البوسنة بالفتح العثماني شهد البلد سرعة كبيرة في دخول البوغوميلين إلى الإسلام، وتذكر المصادر بأن هناك 36 ألف أسرة بوغوميلية أتت إلى السلطان "محمد الفاتح" بعد إتمامه فتح البوسنة لتقديم ولاء الطاعة له والدخول مباشرة في الإسلام؛ ويفسر هذا الدخول السريع في الإسلام تشابه العقائد من جهة ووجود نزاعات دينية مريرة بين البوغوميلين البوسنيين والكاثوليك وبعض الأرثوذكس المجريين من جهة واحتكاك البوغوميلين بالعثمانيين من فترات طويلة وتفضيلهم على غيرهم؛ بسبب سماحتهم الدينية التي اشتهروا بها في البلدان التي فتحوها، وقد طلب كثير من المسلمين الجدد من السلطان أن يأخذ أبناءهم إلى إسطنبول لتربيتهم وتنشأتهم، ومن ضمنهم كثير من نبلاء البلد، وقد وصل البوسنيين بأعداد كبير إلى أرفع المناصب الإدارية والعلمية في العهد العثماني الذي امتد إلى خمسة قرون.

طالت صواريخ الصرب معهد الاستشراق ودمروا كل محتوياته كما أصابت هذه الصواريخ سقوف المكتبة الوطنية والجامعية العامة والتي احترقت بداخلها آلاف من المخطوطات والكتب المطبوعة والتي كانت تحتوي على كنوز من المخطوطات الشرقية التي تراكمت منذ الفتح العثماني للبوسنة.

الإرث العلمي للبوسنة وتدميره:
تحولت البوسنة في العهد العثماني إلى مركز إشعاع إسلامي في منطقة جنوب شرق أوروبا، وكانت الثقافة الإسلامية باللغات الشرقية الثلاث (العربية والفارسية والتركية) هي الرئيسية بداخل البيئة العلمية، إلا أن اللغة العربية تمتعت بمكانة الصدارة في ذلك العهد من حيث كونها لغة للعلم بالإضافة لعدد المؤلفات التي كتبت بها، وقد نتج عن هذا المناخ العلمي أن ظهر علماء وشعراء بوسنويين اتخذوا من العربية لغة تأليفهم الرئيسية، كما أثَّر حب العربية في المجتمع البوسنوي في ظهور اللغة البوسنية بالحرف العربي وظهر من العلماء من ألف بهذا الخط الذي عرف باسم "عربيتسا".

ازدهرت حركة العمران بشكل كبير في البوسنة، وقام الوالي "عيسى بك" بوضع بذرة إنشاء مدينة "سراييفو" التي تحولت إلى مركز من مراكز الإسلام في المنطقة، وكانت مكتباتها غزيرة بالمخطوطات التي تناولت الإسلام وعلومه والعلوم اﻷخرى، والتي نذكر منها مكتبة مدرسة الغازي "خسرو بك" التي ما زالت تحتفظ بأكثر من عشرين ألف عمل مخطوط في فروع العلوم المختلفة.

وفي العصر الحديث تم إنشاء مجموعة من المؤسسات الثقافية مثل معهد الاستشراق والمكتبة الوطنية والمكتبة الجامعية بسراييفو وتم تجميع أعداد كبيرة من المخطوطات بداخل هذه المؤسسات خاصة مكتبة معهد الاستشراق، إلا أن عملية التدمير الصربية الهمجية تجاوزت هدف محو البشر والحجر من المدينة لتصل إلى محو معالم البلد التراثية باستهداف المكتبات والممتلكات كلها، فقد طالت صواريخ الصرب معهد الاستشراق ودمروا كل محتوياته كما أصابت هذه الصواريخ سقوف المكتبة الوطنية والجامعية العامة والتي احترقت بداخلها آلاف من المخطوطات والكتب المطبوعة والتي كانت تحتوي على كنوز من المخطوطات الشرقية التي تراكمت منذ الفتح العثماني للبوسنة، فمثلًا كان عدد مخطوطات مكتبة معهد الاستشراق 5236 مخطوط بالعربية والفارسية والتركية والبوسنية، وأقدم هذه المخطوطات كان يعود إلى عام 413هـ وهي "الفتاوى من النوازل" للسمرقندي، أما بعد الحرب فقد بقي من هذه المخطوطات 564 مخطوطًا فقط أي 10 بالمائة من مجموع هذه الكنوز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.