شعار قسم مدونات

نِدائي الأخير قبلَ الموْت

مدونات - سوريا
جميع أحداث وشخصيات هذه القصة موجودة على أرض الواقع مع الأسف، بعضهم ما زال حيًّا يرزق وبعضهم قد فارق الحياة. لا أعلم لمَ أكتب هذه الرّسالة، لا أعلمُ لمن ولا أعلم إن كانت ستصل إلى أحدٍ أم لا، لكنني مع ذلك سأكتب فالكتابة بوح كلّ غريب لا يجدُ من يسمعه وكلّ يائس لا يريد سوى أن ينقذ نفسه من القهر الذي غرقت به روحه، أكتب لأحمي نفسي من الوصول إلى الجنون، لأحميها من شتاتها وأفكارها وهواجسها ، أكتب لأحمي نفسي منها.


الضربة الأولى كانت قاسية، ظننت أنّها ستكون نهاية العالم بالنسبة لي، عندما رأيت أبي محمولًا على أكتاف أهل الحيّ صاعدين به إلى بيتنا مرددين "لا إله إلا الله و الشهيد حبيب الله" كان ملفوفًا بعلم الثورة السوريّة وتعلو جبينه قطرات من الدّم. كنت أبكي مع الجميع، أبكي مع أمّي وأخواتي وأنحب معهم، أبكي خوفًا تارة وحزنًا تارة أخرى، أهدأ فجأة وأعاود الانهيار من جديد، كانت هذه هي الضربة الأولى لكنّها لم تكن الأقسى.

أتدرك ما معنى أن تظن نفسك أنّها قد نجت، ثم تجدك و أنت تقودها للموت دون أن تعلم ذلك !، أن تخذل نفسك وهي التي وثقت بك شيءٌ مؤلم كثيرًا، تمامًا كما حصل معنا، هاجرنا من حلب مع المهاجرين وتركنا فيها طفولتنا وماضينا وذكرياتنا، تركنا أرواحنا ورحلنا، ركبنا السّفينة وأبحرنا، كنا عبارة عن أجساد مكدّسة بعضها فوق بعض، أجساد مسحورة بزرقة البحر والسماء، مسحورة بفكرة النجاة من القصف والحرب والصواريخ.

كان قائد السفينة يرسل لنا الابتسامات بين الحين والآخر ليشعرنا بالأمان، بالمناسبة كان يبتسم لنا ويزرع سكينًا في ظهورنا في الوقت ذاته، فقد باغتنا ولاذ بالفرار. استيقظنا ليلًا لنجد السفينة تغرق، ولا قائد لها ولا قبطان، كان صوت الصراخ فظيعًا مختلطًا بصوت غرغرة الماء في حناجر الغارقين، رأيت أمّي وهي تطالع وجهي وعيناها جاحظتان لتسرق ما يمكنها سرقته من صورة ملامحي قبل رحيلها، أما أخي فقد كنت أرى يديه وهي تقاوم قسوة الماء الذي يعذبه دون أي رحمة، تجمدّت أحاسيسي ومشاعري، هدأ البحر وهدأ أخي، وأغمضت أمّي عينيها.

رأيت أمّي وهي تطالع وجهي وعيناها جاحظتان لتسرق ما يمكنها سرقته من صورة ملامحي قبل رحيلها، أما أخي فقد كنت أرى يديه وهي تقاوم قسوة الماء الذي يعذبه دون أي رحمة

لم يتبق لي من عائلتي سوى أختي، سبحتُ بها مع الناجين بانتظار معجزة تنقذنا من هذا الجحيم شديد البرودة، حصلت المعجزة، فقد أرسلت الدولة التي هاجرنا إليها قوارب مطاطية لتنقلّنا للشاطئ. كم أكره اليابسة وكم أكره البحر وكم أكره هذا العالم. وصلت الشاطئ، أمسكت بيدها وبدأنا نركض سويًا راغبين بالهرب لا ندري إلى أين ولا كيف، دخلنا في حالة انهيار هستيرية أيقظنا منها صوت شابٍ ينادي علينا، كانت لكنته عربية. عرض عليّ أن أبيت عندهم الليلة ريثما أجد لنا مأوى، انقدت وراءه دون أن أفكر أو أن أستخدم حدسي، فحدسي بات يخطئ كثيرًا في المرّات الأخيرة.

كان بيته بعيدًا في مكان ناء، لم يكن بيتًا أصلًا، كان غرفة كبيرة مهجورة مليئة بالبشر من الدّاخل. أشار لنا بالجلوس مع الجالسين، كانت وجوههم شاحبة وعيونهم بائسة، سألت رجلًا بسذاجة: شو في هون؟ نظر إلي بعد أن ضرب فخذيه بكفيه: "لك إنتو شو جابكن؟ هون إنت بتفوت وما عد في طلعة، رح يقتلوكن ويبيعوكن، قتلوا ولادي التنين ومرتي ليكا عندن وما بعرف شو عم يعملوا معا!"

نزلت حروفه ببطئ داخل أذني، شعرت لحظتها أنّ الزمن قد توقف، لم أنبس ببنت شفة، أمسكت أختي وركضت معها إلى الباب، آخر ما أذكره قبل أن يغيّبوني عن الوعي أنني كنت أرفس الباب بعنف وأصرخ، أصبت بالذعر وتمنيت لو أنني مت مع أبي، أو مع أمي وأخي غرقًا، تمنيت لو أن أختي غرقت معهم أيضًا ولم أشهد مقاومتها وهم يقودونها إلى مصيرها المجهول الذي عذّب روحي قبل أن يعذبها.

وها أنا ذا أكتب هذه الرسالة وأنا أنتظر دوري للذبح، أخطّ هذه الحروف ولا أعلم إن كانت ستصل، لكن إن وصلت فاعلموا أنّ الغرفة ما زالت مليئة بالضحايا المرعوبين، والبحر لا يزال يضمّ سفنًا مكدّسة بالبشر، وحلب لم تتوقف عن زفّ شهدائها كلّ يوم. إن قرأتم كلماتي فافعلوا شيئًا وإلا فادعوا لنا.
المرسل: سوري فرّ من الموت إلى الموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.