شعار قسم مدونات

تونس.. المساواة في الإرث فأين المساواة في الثروة؟

blogs السبسي
في اليوم الوطني للمرأة التونسية والذي صادف الأحد الماضيَ 13 أوت 2017؛ خطب الشيخ الكبير الباجي قايد السبسي في الحاضرين للاحتفال بكلامٍ تناقلتْه جميع وسائل الإعلام المحلية والعالمية وأحدث بذلك صدمةً للإسلاميين وفرحة عارمةً للحداثيين في تونس وكل البلدان العربية فضلًا عن أنه أسعد العالم الغربيَّ بمختلِف طبقاته المجتمعية والسياسية والفكرية، وعد الرئيس التونسي -وهو شيخٌ كبيرٌ قد خرج لتوِّهِ من مَتاهات التاريخ المُتلاشي-؛ وعد المرأة بأنها ستأخذ مثلما يأخذه الرجل من الإرث!

 

وجعل من فاجعة الموت فرحةً كبيرةً لأنها ستُلغِي مراسيم الحزن وتجعل الموت حَدَثًا إيجابيا لصالح المرأة التونسية، كيف لا وهي تنتظر نصيبها الذي يساوي تماما ما سيأخذه أخوها من ترِكة الوالد المسكين الذي هو الآن في قبره، فيا لها من مناسبة رائعة جدًّا ويا له من انتصار كبيرٍ حققه الشيخ الحكيم، فقد حقق صورة من صور العدالة الأكثر عُرضة للتغاضي في عالمنا العربي الذي لا زال يعاني من نسبة مُرعبة من التمييز ضد المرأة.

 

قال الرئيس: إن قضية الإرث وتقسيمه مسألة تركها الفقه الإسلامي محطَّ اجتهادٍ وخلاف، ونحن اجتهدْنا وتوصَّلْنا إلى أنه يجب أن يتساوى نصيبُ كل من الرجل والمرأة في الترِكة، كلامه هذا يبدو منطقيًّا لأن المسائل التي لم يحسِمْ فيها الشرعُ متروكةٌ إلى اجتهاد الفقهاء حسب اختلاف الزمان والمكان وغير ذلك من المحددات التي تتحكم في الفتوى والفصل في النوازع، وهذا الأساس تقريبًا تتفق عليه كل المذاهب الإسلامية منذ القديم.

نسي التونسيُّون ثروتهم وانغمسوا في جدال عن الإرث، ولم يتفطَّنوا أن ذلك الميت الذي سيتقاسمون ترِكته إنما رحل عن الدنيا فقيرًا ولم يترُكْ مالا ولا عقارا، فقد عاش حياته طالبًا لحقِّهِ ولكن الدولة واجهتْهُ بالقمع
نسي التونسيُّون ثروتهم وانغمسوا في جدال عن الإرث، ولم يتفطَّنوا أن ذلك الميت الذي سيتقاسمون ترِكته إنما رحل عن الدنيا فقيرًا ولم يترُكْ مالا ولا عقارا، فقد عاش حياته طالبًا لحقِّهِ ولكن الدولة واجهتْهُ بالقمع

بمعنى: أن هناك قضايا يسوغ للفقيه أن يوسِّعَ فيها اجتهاده ورأيه دون أن يكون هناك نصٌّ قاطعٌ يمنع مَزيدا من الاجتهاد، ولكنْ يا سيادة الرئيس كلامك هذا إن لم يدُلَّ على قلة معرفة بالفقه الإسلامي وأن قضية الإرث محسومةٌ في بضع آياتٍ وأحاديث نبوية وإجماعٍ بين علماء الإسلام؛ فإنما يدُلُّ -وهذا هو الواقع- على تلاعب واضح بالدِّين وتطويعه لمصالح السياسة.

 

ويدرك المراقبون أن السبسي أراد من خلال تصريحه إحداث ضجة بين طرفي المجتمع التونسي: الإسلاميين وهم الأكثرية المُطالِبة بالإصلاح والحفاظ على مكتسبات الثورة الشعبية والحداثيين وهم القلة الموالية للثورة المضادة والنظام القديم، وفعلًا بات النقاش منذ خطاب الباجي قايد السبسي محصورًا في قضية الإرث أي في مسألة ما بعد الموت! دخل التونسيون في موجات نقاش على وسائل الإعلام وشاشات التلفزيون وصفحات الفيسبوك ليُثبت كل طرف رأيه في القضية: هل للمرأة أن تأخذ مثلما يأخذ الرجل من التركة أم جب الالتزام بما ورد في القرآن الكريم وأن "للذَّكَر مثلَ حظ الأُنْثَيَيْنِ"؟ وهذا بالضبط ما يريده شيخٌ هَرِمٌ مثل السبسي، لأن هؤلاء البسطاء يتناقشون في تقسيم الإرث لكنهم لا يتناقشون في تقسيم الثروة التي تزخَر بها تونسُ من نفط ومعادن فضلًا عن عائدات السياحة والصيد البحري وغيرها من مقوِّمات الاقتصاد التونسي.

 

ونحن نتذكر كيف تمَّ قمع الحراك الشعبي الذي رفع شعار المطالبة بحق الشعب التونسي في ثرواته، كاد النظام العميق المرتبط ارتباطا وجوديًّا بفرنسا أن يهتزّ لولا التهديد بالقمع وبتوريط الجيش في حربٍ ضد الشعب، قامت وسائل الإعلام الحداثية التنويرية في تونس بتخويف الشعب البسيط من بعبع الإرهاب وداعش والقاعدة وتلك الأشباح، وهذا هو ما طلبتْه باريس من أذرُعِها الإعلامية داخل تونس وخارجها أيضًا: المطالبة بالحق في الثروة يعني فتحَ بابٍ لأبي بكرٍ البغدادي أن يعلن تونس ولاية تابعة للخلافة وعاصمتها الموصل آنذاك! ويبدو أن القمع الذي تمارسه آلة الإعلام التونسية وهي جهازٌ تابعٌ مباشرةً للدولة العميقة (بورقيبة – زين العابدين – السبسي) قد بلغَ حدًّا خطيرًا في ترويع الشعب وإعادته إلى حظيرة الطاعة.

نسي التونسيُّون ثروتهم وانغمسوا في جدال عن الإرث، ولم يتفطَّنوا أن ذلك الميت الذي سيتقاسمون ترِكته إنما رحل عن الدنيا فقيرًا ولم يترُكْ مالا ولا عقارا، فقد عاش حياته طالبًا لحقِّهِ ولكن الدولة واجهتْهُ بالقمع وقالت له: لا تقلقْ؛ حين تموت سنعطي أولادك وبناتِك الحق في اقتسام ثروتك بالتساوي! فرِح بذلك لأن بنته ستأخذ مثلما يأخذ ابنه، لكنه نسي: سيأخذان ماذا؟ ومات من الفرح!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.