شعار قسم مدونات

صائدو الحريات

blogs سجن

هناك بعيداً عن كوكبنا هذا، بعيداً عن المدن والشوارع والحياة والإنسانية، يوجد مكان مظلم معتم، كبير ولكنه يضيق بنزلائه فيخنفهم يومياً مئات المرات، محاكم التفتيش تبرأت من قسوته ولا إنسانيته، ذو جدران إسمنتية وقلوب القائمين عليه أشد قسوة من جدرانه، مكان تموت فيه الحياة والآمال، في ذلك المكان الموت هو بوابة الخروج للحرية، وفي أسعد اللحظات وأفضلها يكون الجنون هو البطل المنقذ، في ذلك الكوكب البائس يجتمع الكثيرين تحت مسمىً واحد، يوزعون على غرف ليستقروا بها إلى أجلٍ غير معلوم، فتأكل تلك الغرف زهرة الشباب وتذبل فيها وردة الصبى، وتفنى الشيخوخة كشجرة زيتون قديمة معتقة تقتلعها جرارات الاحتلال في الأراضي المقدسة.

وفي حكم أحد الإمبراطورات كان من أهم رواد هذا المكان هم العلماء والأطباء والمثقفين، في نفس الوقت الذي كانوا أولئك يعتبرون من دعائم المجتمع في بلادٍ أخرى، وقد جمعت غرف هذا المكان يوماَ من الأيام آلاف الأطباء المتميزين بحسب ما قال العديد من روادها الذين سمحت لهم الفرصة بالخروج من بيت الموت ذلك وإكمال حياتهم إن كان قد بقي لهم حياة.

الإرهاب هي التهمة المعومة التي تتخذ الديكتاتوريات منها سبيلاً لجمع شمل علماء البلد وأصحاب الأدمغة في مكان واحد، فأي دماغٍ يشك الحاكم بأنه من الممكن أن يضيء في المستقبل ويشع نوراً كان يعمل إلى قطع نوره ورأسه، إذ عرف الديكتاتور أن ذلك الضوء سيسلط على فضائحه وتجاوزاته وكرسي حكمه، فكان لابد له من أن ينقذ نفسه قبل وقوع البلاء.

ينمو داخل كل معتقل سواد الكره، يُجبر على الحقد، يعيش لحظاته هناك كلها في خوف، خوفٌ على نفسه، وخوفٌ على أهله فالمعتقل في بلادي هو مصيبة تُجر على العائلة بأكملها

في المعتقل رقم (8) أو (9) ولا داعي لتذكر الأرقام إذ في تلك الأيام والأماكن لا يهم الرقم ولا حتى الاسم، الشيء الوحيد المهم هو قدرتك على تحمل ثقل الأيام والألم، كان العديد من المعتقلين محبوسين في ذاكراتهم قبل زنازينهم، يعيشون الساعة كمائة يوم، واليوم كآلاف السنين، ينتظرون ساعة الحرية، لا حرية الإفراج عنهم ولكن الحرية الأبدية حيث أنهم تيقنوا بأن الإفراج والبراءة من التهم ما هي إلا أسطورة رومانية أو يونانية، خرافة لا يمكن لأحدٍ أن يعيشها كما الإنسانية تماماً، هي شيء كاذب كالسراب يظنه الظمآن ماء، الشيء الوحيد الذي كانوا متأكدين من وجوده هو الألم، حلقات الألم النفسي والجسدي المرتبطة ببعضها، التعذيب اللانهائي هو سيد تلك اللحظات.

تدخل من باب السجن بسن العشرين وتخرج منه – إن خرجت أساسا – عجوزاً تأسف على زهرة الشباب التي ضاعت أضعاف حزنك من الألم والقهر، دخولك للسجن هو بمثابة بداية النهاية لكل الطموحات والآمال وحتى الحياة، يستقبلك عند البوابات صائدو الحريات وتبدأ مرحلة جديدة من الحياة بالنسبة للمعتقل، تقتصر دورة حياته بعدها على الأكل والشرب والعيش في ظلمات الألم، إن أكثر ما يؤلم الإنسان في تلك اللحظات ليس الألم الجسدي ولكن الذاكرة، الحنين للأهل والأصدقاء، في الزنزانة الفراغ هو عدوك الأول والأخطر.

إن قدرة الإنسان الحقيقة على تجاوز الصعاب تكمن في شيئين، أولاً إرادته وثانياً ذاكرته أو بمعنى أدقق قدرته على النسيان أو التجاهل، إلا في الزنزانة فلا مفر حينئذٍ ربما تنفع الإرادة قليلاً ولكن لا تأمل النسيان، ستجربك ذاكرتك على تذكر التفاصيل لأنك تعيشها يومياً، تنساها لثوانٍ إن حالفك الحظ، ولا تلبث أن تتذكرها إثر سماع صوت تعذيبٍ أو نداءٍ إلى غرفة التحقيق، أو حتى جلوسٍ إلى مائدة الطعام.

ينمو داخل كل معتقل سواد الكره، يُجبر على الحقد، يعيش لحظاته هناك كلها في خوف، خوفٌ على نفسه، وخوفٌ على أهله فالمعتقل في بلادي هو مصيبة تُجر على العائلة بأكملها، إلى أن يكبر داخلهِ وحشٌ من الخوف يأكله ببطيء ويرسم له أبشع السيناريوهات التي من الممكن ان تحصل له ولأهله، ليعيش باقي أيامه في زنزانة داخل الزنزانة، وعذاب داخل العذاب.

يعيش ذلاً مستمراً، فالأكل مصحوباً بالذل والشرب مصحوبا بالذل، والعناصر في الداخل معدةٌ لذلك الأمر مهمتها الأولى كسر كبرياء المواطن وجرح عزته وتعريضه للإذلال، تأتي نداءات عزرائيل حين الاستدعاء إلى غرفة التحقيق، لا تأمل أن تلقى رأفةً من المحقق، تلك المخلوقات مدربةُ تماماً على تحمل صوت التعذيب البشري ونداءات الرحمة والاستغاثة، بل إنها تستمتع بتلك الأصوات وتُطرب لها، إن من لم يعش تجربة الاعتقال فلا يتكلم عن الألم والأسى ولا انعدام الأمل، فذلك الثقب الأسود هو المصدر الأول لتلك الأمور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.