شعار قسم مدونات

لعنةُ الثَّقافةِ

blogs الكتب

مِنْ غَيْرِ مُقدِّماتٍ جَزِلَةٍ، وَدون تَنميقِ القَوْلِ، بَاتتْ الثَّقافةُ -القاصِرةُ- إحدى المُستنقعاتِ التي يَرتكِسُ بوَحْلِها المراهِقُونَ والمُراهِقاتُ -فِكرًا-، ولَعْنَةُ الثَّقافَةِ تشتَملُ على لَعنتَيْنِ: 
الأولى: لعنةُ القراءَةِ القاصِرةِ.
والثَّانِيةُ: لعنَةُ الكِتابةِ -الكتّابُ المتطفِّلونَ على موائدِ الأدبِ.

سأتناولُ في هذهِ التدوينةِ لعنةَ القراءةِ، وفي الأيّامِ الأخرى أتناولُ موضوعَ الثانيةِ -إنْ شاءَ اللهُ-، أقولُ: ذاتَ مرَّةٍ سألتُ في إحدى المجموعاتِ الثَّقافيَّةِ التي يُفترضُ أنّها تضمُّ الآلافَ من القرّاءِ سؤالًا بسيطًا، لماذا نقرأُ؟، فكانتْ أكثرُ الأجوبةِ (هُروبًا مِنَ الواقِعِ)، ومثلُ هذا الجوابِ -مع تفرّدِه عند المُجِيبِ- يدلُّ على مأساةٍ حقيقيَّةٍ في عالَمِ القِراءَةِ، فقارىءُ اليوم قائدُ الغدِ وأنّى لهذا القائدِ أنْ يكونَ سلاحُه هو الهروبُ مِنَ الواقِعِ!، وهذا الجوابُ يدلُّ على أنَّ القراءةَ أضحى دورُها كدورِ الكوكايينِ تُخدِّرُ الشخصَ وتجعلُه يعيشُ في عالمِ الخَيالِ -هذا العالمُ جيِّدٌ إنْ لم ينسِكَ الواقِعَ-، ولذلكَ أيضًا نرى أنَّ عددَ القرّاءِ تضاعفَ فعلًا مرّاتٍ ومرّاتٍ ولكنْ مِنْ غيرِ أيِّ تأثيرٍ على المُجتمعاتِ لماذا؟ لأنّهمْ مخدّرونَ.

إنَّ القُرَّاءَ مشكلتُهم لا في عدَدِ أو كمِّ ما يقرأونَ ولا حتى في نوعيَّةِ ما يقرأونَ، ولكنْ مشكلتهم في عقلِهم لا في الكتابِ الذي بين أيديهمْ حتّى ولو كانَ الكِتابُ مضلِّلًا. فمعظمُ القرّاءِ الحاليّينَ لا يمتلِكونَ الثقافةَ الحقيقيّةَ ولربّما جاوزوا قراءَةَ المائةِ كتابٍ، ومَعْ ذلكَ لو ناقشتَهم ستجِدُهم يحملونَ أفكارًا سطحيَّةً لا تدلُّ على وجودِ عقلٍ ترعرعَ بينَ رياضِ القِراءةِ والحرفِ، وذلكَ كما أسلفتُ لمشكلةٍ في عقلِهم، ألا وهي القراءةُ دون وعيٍ إمّا للمتطفِّلينَ على موائدِ الأدبِ، أو قراءتُهم للكُتُبِ المضلِّلةِ.

قراءةُ كتبِ الغربِ مهمّةٌ لا سيّما أنّهم يمتلكونَ مفاتيحَ الحضارةِ في هذا الوقتِ، سواءً العلميّة التجريبيَّة أو التي تتحدَّثُ عن ثقافتِهم الحضاريَّة
قراءةُ كتبِ الغربِ مهمّةٌ لا سيّما أنّهم يمتلكونَ مفاتيحَ الحضارةِ في هذا الوقتِ، سواءً العلميّة التجريبيَّة أو التي تتحدَّثُ عن ثقافتِهم الحضاريَّة

فأمّا قراءةُ الكتُبِ المضلِّلةِ دون وعيٍ، وبلا أيّ بياناتٍ سابقةٍ دينيَّةٍ أو ثقافيَّةٍ فتلكَ الطامّةُ الكُبرى، والسَّبَبُ الأوَّلُ في ظُهورِ الإلحادِ علَنًا بعدَ اندثارِهِ مَخزيًّا في صفحاتِ التَّارِيخِ -بعد سقوطِ الدولةِ الشّيوعيَّةِ في روسيا، أرى بعضَ الأصدقاءِ الذينَ انخرطوا في قراءةِ كُتُبِ الفلسفةِ وعِلمِ النَّفسِ والثَّقافةِ الغربيَّةِ بشكلٍ عامٍ، إمّا ألحدوا؛ لأنّهم وجدوا الإلحادَ هو الطَّرِيق الأسهل للتخلِّصِ من تساؤلاتهم التي تُثيرُها خاصّةً الفلسفةُ، أو تغيَّرتْ ثقافتُهم للأسوأِ، كاللواتي خَلَعْنَ الحجابَ وما زِلنَ مُسلماتٍ، -تقرأُ كتابًا فتقصِّرُ شِبرًا من لباسِها-، والذين أصابَ فِكرَهم العُضالُ وما زالوا مُسلِمينَ، وهم أنفسهم دعاةُ التحرّرِ الذين إنْ لم يهاجموا الدينَ هاجموا بعضَ أحكامهِ، وإنْ لم يهاجموا هذا أو ذاكَ هاجموا الشيوخَ ورموهم بالتخلِّفِ؛ لأنّهم لا يتناسبونَ مع (الإتيكيتِ) الخاصّ بهم فأشركوا بالله وجعلوا من الهوى إلههم الثاني -إنْ لم يكونوا ألحدوا وكفروا بوجودِ الله.

فعليًا، قراءةُ كتبِ الغربِ مهمّةٌ لا سيّما أنّهم يمتلكونَ مفاتيحَ الحضارةِ في هذا الوقتِ، سواءً العلميّة التجريبيَّة أو التي تتحدَّثُ عن ثقافتِهم الحضاريَّة، حتى لو عارضتِ الدِّينَ الإسلاميّ أو روَّجتْ للإلحادِ، ذلكَ لأنّ معرفةَ تفكيرِ الشخصِ المقابلِ لكَ كالملحدِ ومحاورته من منطقِهِ إحدى الطُّرق الأفضلِ في إقناعِهِ بمعتقداتِكَ، كما كان يفعلُ فارسُ الدعوةِ وإمامُ المُناظرينَ أحمد ديدات -رحمه اللهُ-، كان يحاورُ المسيحيَّ مِنْ كتابهِ واليهوديّ كذلكَ وغيرهم، ولذلكَ لا أعارضُ قراءَةَ المنهجِ الغربيِّ من الفلسفةِ وغيرِها ولكنْ قبل ذلكَ يجبُ الورودُ إلى مَعين المعرفةِ بالدِّينِ والإلمامِ بهِ، والشُّربُ مِنْ زمزمِه حدَّ الارتواءِ، فمهما كان القارىءُ حذرًا فإنْ تكرارَ المعلومةِ يجعلُها أمرًا مُسلَّمًا بهِ في تلافيفِ العقلِ إنْ لم يكنْ هناكَ ما يردعُها مِنَ المعرفةِ الدينيَّةِ، لذا لا تكنْ إمَّعةً، وقارئًا ساذجًا، وأدركْ أنّ الخُبثَ لا يقولُ لكَ أنا الخبثُ، وإنْ أتاكَ فسيأتي مِنْ أبوابٍ تستخدمُها الطِيبةُ.

وأمّا النوعُ الآخرُ مِنَ القراءَةِ دون وَعْيٍ، أخفُّ وطأةً من سابقهِ على المجتمعاتِ -على الأقلّ لا يشكِّلونَ خطرًا مثل سابقيهم- ولكنّه موجودٌ بشكلٍ أكبر، ويجعلُ الناظرَ إلى روّادهِ مُشفقًا عليهم، وهو القراءةُ لأجل القراءةِ، أي ليظهرَ بشكلِ المُثقَّفِ، فنراهُ (يحتسي) القهوةَ عند القراءةِ -ولو احتسى (شوربةَ) الدجاجِ لكان ذلك أكثر فائدة!-، ونراهُ ينشرُ اقتباساتٍ من الكُتُبِ تُدِلُّ على جهلهِ بما يقرأُ -ولا ننسى كوب القهوةِ المرفقِ بصورةِ الاقتباسِ فسواهُ لن يكون عميقًا-، أو تتحرَّكُ عاطفتُهُ الجيَّاشةُ أثناءَ القراءةِ فيُريِّحُ أعصابَه بصوتِ فيروزَ -ولو استمعَ للقرآنِ لكان أفضل-، أو تراهُ يريدُ أنْ يكونَ عميقًا أكثر فيقرأُ لمحمود درويش شِعرًا أقسِمُ أنّه لا يفهمهُ.

أمّا أنا فعاشِقٌ للقهوةِ لدرجةِ أنّني حُرمتُ مِنْ شربِها لإدماني عليها، وأحبّ بعضَ أشعارِ محمود درويش، وأستمعُ لفيروز كثيرًا، والقصدُ أنّني لستُ ضدَّ هذه الأمورِ لكنّني ضدُّ التقليدِ بلا وعيٍ واتخاذِ هذه الأمور رموزًا للثَّقافةِ.

هؤلاءِ الذين لو سألتَهم ماذا قرأتُمْ في التاريخِ؟ لسكتوا، وإنْ سألتَهم ماذا قرأتُم في دينكمْ؟ لسكتوا، وإنْ سألتَهم عن كتابٍ أدبيٍّ قرأوه، سيقولونَ لكَ رواية فلانٍ -ليستْ كلُّ الرواياتِ سيئةً-، وإنْ سألتَهم بعد هذا كلِّهِ ماذا أفادتكم القراءةُ؟، سيكون الجوابُ أفادتنا بالحصولِ على أبعادٍ جديدةٍ من التفكيرِ -شخصيًّا لا أدركُ كنهها- ولكنْ أجزمُ يقينًا إمّا أنّها أبعادٌ في التخلُّفِ أو كان جوابهم فقط ليتخلَّصوا من عبء السؤالِ، هذا إنْ لم يقولوا أيضًا "الهروب من الواقع".

أعْمِلْ عقلَكَ فهو مجَّانيٌّ، واعلمْ أنّ كلَّ ثقافةٍ لا تصنعُ القائدَ المُسلمَ الواعيَ ثقافةٌ خاسرةٌ، وماؤها آسنٌ، وما استخدمتُ كلماتي هذه إلّا للدلالةِ على خطورةِ ما يمرُّ به الشَّبابُ مِنْ تيهٍ وتخبُّطٍ

مثل هؤلاءِ لستُ أقفُ ضدَّهم فأكثرُهم جاهلونَ -بالمعنى الإيجابيّ لكلمةِ جاهلٍ-، لا يدركونَ أنّ تصرُّفاتِهم لا تمتّ بصِلَةٍ لواقعِ الثَّقافةِ؛ لأنّه ليس هناكَ مَنْ يُرشدُهم، أو ربّما يفعلونَ ذلكَ لجلبِ الإعجاباتِ والتعليقاتِ على الفيس بوك-كالتي تصوّرُ كتابًا تحملهُ بيدِها وتصوِّرُ يدَها معه وقد وضعتْ على أصابعِها مناكير جديدةٍ ثمّ تقولُ ما رأيكمْ بالكتاب؟ وليتجنّبوا الوقوعَ بهذا الفخِّ، عليهم أنْ يكونوا أكثرَ ذكاءً في قراءتِهم وأكثر وعيًا في تصرّفاتِهم، وأنْ يحدِّدوا أهدافهم من القراءةِ بوضوحٍ.

إلى هنا ذكرتُ نوعينِ تندرجُ فيهما لعنةُ القراءةِ، ولكن هل انتهَيتُ؟ قطعًا لا، هناكَ أمرٌ آخرُ وجَبَ التنويهُ لهُ، وهو المجتمعات الثقافيَّةُ في الفيس بوك وغيرِها منَ المواقعِ، أرى في بعضِها أنّها تقومُ بواجِبِ الملهى اللَّيلي!، من اغتصابٍ للأدبِ والثَّقافةِ الأصيلةِ من ناحيةٍ، ومن إهمالِ القِيَمِ الدينيَّة بين أفرادِها -تحت مسمّى الثَّقافةِ- وتجاوزِ حدودِ الأدبِ بين الجنسَيْنِ من ناحيةٍ أخرى، فيضربونَ بجميعِ الأخلاقِ عرضَ الحائِطِ، كما مرَّةً رأيتُ شابًا يناقِشُ فتاةً عن ليلةِ الدخلة في الروايةِ العربيّةِ!

وأمّا المجتمعاتُ الثَّقافيَّةُ على أرضِ الواقعِ عبارةٌ عن كَمانٍ وموسيقا حزينةٍ، وشاعرٍ تخاصمَ مع زوجتِه، أو تقاتلَ مع والدِه إنْ كان أعزبًا، وهُراءٍ أدبيٍّ لي فيه حديثٌ طويلٌ في التدوينةِ القادمةِ -إنْ شاءَ اللهُ.

صديقي، أعْمِلْ عقلَكَ فهو مجَّانيٌّ، واعلمْ أنّ كلَّ ثقافةٍ لا تصنعُ القائدَ المُسلمَ الواعيَ ثقافةٌ خاسرةٌ، وماؤها آسنٌ، وما استخدمتُ كلماتي هذه (لعنة، ملهى، اغتصاب، …) إلّا للدلالةِ على خطورةِ ما يمرُّ به الشَّبابُ مِنْ تيهٍ وتخبُّطٍ في كتُبٍ لا تسمنُ ولا تُغني من جوعٍ وكتبٍ تروِّجُ للأفكارُ المضلِّلةِ التي باتت سببًا في تفكّكِ أُسَرَ بسببِ اقتناعِ أصحابِها بِها، هذه رِدَّةٌ فكريَّةٌ وَجَبَ محاربتُها بسيفٍ من نارٍ، ولذلكَ كنتُ في كثيرٍ من الأحايين هجوميًّا في كلامي، والله وليُّ التوفيقِ. ختامًا، كُنْ ذكيًّا فالمؤمنُ كيِّسٌ فطِنٌ، واقرأْ لتُدرِكَ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.