إذ على الرغم من العدد الهائل للأطفال اللاجئين العرب الذين وصلوا إلى ألمانيا، والذي يقدر عددهم على الأقل بـ 300 ألف طفل، يتابع معظمهم تعليمه في مختلف المدارس الألمانية، فلا تُدرّس اللغة العربية في المدارس الحكومية إلا في ثلاث ولايات فقط من أصل ست عشرة ولاية ألمانية؛ وهي ولاية "شمال الراين فيستفاليا" (Nordrhein-Westfalen) في شمال غرب ألمانيا، وولاية "هِسن" (Hessen) في وسط ألمانيا، وولاية "الرينلاند بفالتس" (Rheinland-Pfalz) الواقعة في غرب البلد، وهي ولايات متجاورة كانت تاريخيا سبّاقة إلى إدراج مادة اللغة العربية، أي قبل الحركة اللجوئية الحالية، وتحديدا منذ ثمانينيات القرن الماضي لكن كمادة اختيارية في إطار ما يعرف بـ "درس اللغة الأصل") اختصارا بالألمانية HSU)، وهو درس أسبوعي يهدف إلى دعم الثنائية بل والتعددية اللغوية لأبناء الجاليات الأجنبية، الذين ولدوا وترعرعوا في محيط لغوي ألماني محض عن طريق تعليمهم لغتهم الأصل، والتي لم تعد لدى أغلبيتهم مع مرور السنوات لغتهم الأم، وعلى رأسها اللغة العربية إلى جانب لغات أخرى حاضرة بقوة في المجتمع الألماني، مثل التركية والبولندية وغيرهما.
غير أن الطبيعة الاختيارية للغة العربية كمادة مدرسية حالت دون تحقيق هذا الهدف المُسطر لها، فرغم الجهود التنظيرية والتنظيمية الكبيرة التي سُخرت منذ عقود لإنجاح هذه التجربة الفريدة التي لا نجد مثيلا لها في معظم دول أوروبا، لم تتمكن مادة اللغة العربية من تطوير وضعيتها، بل كونها مجرد مادة اختيارية جرّ عليها، كمادة مدرسية هامشية ومحصورة ضمن ولايات ألمانية محددة، مشاكل متنوعة تراكمت منذ عقود، لعل من أبرزها: الصورة الانتقاصية لهذه المادة الاختيارية كلغة "الآخر" العربي- المسلم عموما، والنظرة النمطية السلبية عن الضعف المزعوم في مردوديتها بسبب "صعوبتها" المتخيلة على التلاميذ الناطقين بغيرها، خصوصا. وكمثال على هذا أقدمت ولاية "بافاريا" (Bayern) سنة 2004 على إلغاء حصة اللغة الأصل (بما فيها مادة اللغة العربية) من مدارسها بالتدرج إلى نهاية سنة 2008، وتخصيص ميزانيتها لتدعيم مهارات اللغة الألمانية لدى التلاميذ من أصول أجنبية، ومنهم أعداد كبيرة من الأصول العربية، وبالأخص في عاصمة الولاية، ميونخ.
" رغم الجهود التنظيرية والتنظيمية الكبيرة التي سُخرت منذ عقود لإنجاح هذه التجربة الفريدة التي لا نجد مثيلا لها في معظم دول أوروبا، لم تتمكن مادة اللغة العربية من تطوير وضعيتها |
يضاف إلى هذا، غياب الاهتمام الرسمي بهذه المادة، وعدم وجود رغبة جادة في الإصلاح الجذري لحصة اللغة الأصل عامة ولمادة اللغة العربية خاصة والاكتفاء بالمقابل بالحلول الترقيعية في غياب أي ضغط من طرف الجمعيات الممثلة للجاليات العربية على قلتها، ناهيك عن غياب كتب مدرسية تلبي حاجات تلاميذ مادة اللغة العربية كناطقين بغيرها والاستعاضة عنها بكتب مخصصة في الأصل للتلاميذ الناطقين بالعربية والقادمة في معظمها من الدول العربية.
وهذه ليست دعوة لعرب ألمانيا وأبنائهم إلى التقوقع اللغوي؛ فالتعلم السليم للغة الأصل والقدرة على التواصل بها شفهيا وكتابيا يُسهم، حسب الدراسات المتخصصة، في تعزيز قدراتهم اللغوية العامة إلى حد كبير، ويُسهل عليهم تعلم اللغة الألمانية بل ولغات إضافية يتلقونها في المحيط المدرسي مثل الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية. إضافة إلى هذا، فعن طريق دعم الثروة اللغوية الهائلة التي يجلبها الأطفال العرب معهم إلى المدرسة الألمانية ابتداءً من الصف الأول، والتي لا يملكها أقرانهم من الأطفال الألمان، يحول دون خطر ضياعها بسبب طغيان الاستعمال اللغوي الأحادي مع مرور السنوات الدراسية، خاصة وأنّ النظام التعليمي الألماني، مقارنة مع دول أوروبية أخرى، يتسم بأحاديته اللغوية المفرطة.
ختاما، إدماج اللغة العربية في المحيط المدرسي بوصفها مادة إلزامية هو بمثابة مقدمة لإدماجها بل وتطبيعها في المجتمع الألماني بوصفه مجتمعا أوروبيا غربيا ينظر إليها في الغالب بنظرة نمطية سلبية في كونها لغة "أجنبية"، و"لاجئة" و"هامشية" لا حضور لها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.