شعار قسم مدونات

لا ميسي سوبرمان ولا كريستيانو باتمان!

مدونات - ميسي وكريستيانو
 
"أعرف أن ميسي أفضل لاعب ممكن لكن أحب رونالدو أكثر، أشعر وأنه يجتهد بشكل مضاعف، ويعمل على تطوير نفسه كل يوم. الأرجنتيني بالنسبة لي يشبه سوبرمان وكأنه كائن فضائي ، أما البرتغالي فهو باتمان بكل ما يُعرف عنه من اجتهاد ومثابرة". أراهنك يا صديقي أنك سمعت هذه العبارة مرة أو أكثر خلال نقاشاتك مع أصدقائك. ويعد هذا الرأي المحفوظ عن ظهر قلب أقرب إلى القوالب الجاهزة سريعة الصنع، بمعنى أن هناك عدد غير قليل من المشجعين يعشقون كلمة "الحياد" بكل مشتقاتها، لذلك يفضلون دائماً وصفهم بالشخص البعيد عن التعصب مع رفع شعار، خيرالأمور أوسطها.

وقرأت مؤخراً على مدونات الجزيرة مقالاً يتبنى هذا الرأي لأحد الزملاء الأعزاء، مع أخذ الموضوع إلى سكة الحياة والإتجاهات وليس كرة القدم، لكن أجد نفسي مختلفاً مع الجانبين، النظرة المرتبطة بالكرة وعالمها، والوجهة التي تتحدث من منطلق العمل والجد والبناء، لأنهما في النهاية ينبثقان من نفس المصدر تقريباً، بالإقحام غير المبرر لمقارنات سوبرمان وباتمان من أجل إيجاد سبب غير مطلوب من الأساس، لحب نجم أكثر من غيره.

(1)
نتحدث أولاً من منطلق بعيد بعض الشيء عن كرة القدم، لأقتبس مقولة الفيلسوف الإسباني خوسيه أنطونيو مارينا حينما قال،"الموهبة ليست هدية أو منحة، إنها عملية توجيه قدراتنا في الإتجاه الصحيح، ولكن كيف يحدث ذلك؟ بالتعلم والتمرين والتدريب المستمر. نحن جميعاً ولدنا بجينات معينة، لكن ليس كلها ظهر للعلن أو استطعنا أن نُظهره. والتعليم هو الأساس لتمنية هذه الصفات وإيجادها من الأساس".

يحكي مارينا والمصدر للصحافي مارتي بيرارنو عن قصة شهيرة بين المؤلف الموسيقي تشايكوفسكي وعازف الكمان ليوبولد أوير، حينما ألف الأول قطعة موسيقية معينة وعارضه الثاني بقوله أن لعبها أمر مستحيل، لكن خلال الوقت الحالي يستطيع أي طالب موهوب تنفيذها بكل سهولة، لماذا؟ بكل تأكيد التطور قطعة غير منسية لكن كل شيء بدأ بالتجربة والممارسة والتدريب.

undefined

 

ما أرمي إليه من هذه الأمثلة الفلسفية والحياتية أن الموهبة وحدها ليست كافية أبداً، وأن قصة سوبرمان ستبقى خيالية لا علاقة لها بالعامل البشري، ولا حتى يجوز أن نذكرها عندما نتحدث عن أحدهم في كرة القدم أو أي مجال آخر. فقط الأفضل هم من يريدون تطوير أنفسهم، الأهم هو "التغيير"، أن تتحول من الجيد إلى الجيد جداً، ومن الجيد جداً إلى الممتاز، ومن الممتاز إلى الاستثنائي، هكذا هي المعايير التي أعرفها، ولا أي شيء آخر.

سمعت قصص عديدة عن مواهب صغيرة ضلت طريق النجومية بسبب الغرور أو الشخصية أو الكسل، لست في وضع ضرورة إقناع الآخرين بأنهم كانوا مثل ميسي، لكن المحصلة واحدة في النهاية.

(2)
وبالإسقاط على حالة رونالدو وميسي مثلاً، سنجد أن رونالدو امتلك الموهبة أيضاً، لدرجة أنه انضم للمنتخب البرتغالي في سن 19، ولعب بطولة يورو 2004 مع النجوم الكبار فيغو وروي كوستا وغيرهم أساسياً، ولا يقل بأي حال من الأحوال عن أي إسم فيهم. وفي أول أيامه مع مانشستر يونايتد، اشتهر اللاعب بالمهارة والسرعة والقوة البدنية، فقط وجد مدرب بقيمة السير أليكس فيرغسون عرف كيف يطور من قدراته ويضعها في المكان الصحيح، أي أنه استخدم هذه الميزة لكي يحصل على خلاصة الموهبة، لينطلق كريستيانو بعدها ويصل إلى ما شاهدناه الآن.

نأتي إلى ميسي وهو الأهم لأن تشبيهه بسوبرمان تقليل شديد منه وليس العكس، فالذي يعرف ليو جيداً في بداياته يدرك أنه وصل إلى هذه المكانة بالاجتهاد والتدريب الشاق. الأرجنتيني بدأ مسيرته كجناح مقلوب على الخط، يحصل على الكرة ويقطع من الطرف إلى العمق، من أجل التسديد أو الصناعة، لكنه لم يتوقف أبداً عند هذا الحد، ليتألق فيما بعد كرأس حربة وهمي ومهاجم صريح ولاعب وسط متقدم، وحتى لاعب ارتكاز مساند في بعض المباريات.

يقول تشافي هيرنانديز عن ميسي، "إنه يملك كل شيء لكي يكون الأفضل، لكنه فعل الكثير حتى يصبح كذلك. في إحدى الفترات بعد رحيل رونالدينيو، وجد برشلونة صعوبة بالغة في تنفيذ الكرات الثابتة، ليقرر ميسي بعدها الجلوس بمفرده يومياً لمدة تزيد عن الثلاث ساعات"، كل هذا من أجل إتقان هذه المهارة وتطويرها بشكل أفضل، وهذا ما حدث ليصبح فيما بعد واحد من أفضل متخصصي الكرات الثابتة في العالم إذا لم يكن أفضلهم.

موقف آخر يحكيه بيب غوارديولا قبل مباراة كلاسيكو البرنابيو 6-2 في 2009، قبلها قرر الجهاز الفني وضع ميسي في العمق كمهاجم مزور. بالطبع هذه الفكرة لن تحدث في لحظة زمنية قصيرة، بل جلس الثنائي بيب وليو كثيراً للحديث الخططي عن كيفية التحرك والتمركز عند بداية الهجمة ونهايتها، لتنجح المغامرة ويقدم ليو مباراة كبيرة، لكن بعدها بدأت الفرق تحفظ هذه اللعبة جيداً، ليفاجيء ميسي مدربه والجميع بعمل تمرينات إضافية حتى يجيد خاصية التمرير من الخلف، ليستفيد منها في الوقت الراهن مع كبر سنه وتحوله إلى صانع لعب بالعمق، لصعوبة التمركز على الطرف كالسابق لحاجة هذا المكان إلى ركض أطول.

المدرب  بيب غوارديولا وميسي (رويترز)
المدرب  بيب غوارديولا وميسي (رويترز)

(3)
لا يخبرنا علم الإحصاءات بكل شيء، 99 % من الأرقام تعطينا 45 % من القصة بالكامل، وبالتالي يمكن القول بأن الحديث السابق عن تطور ميسي تكتيكياً وتدريبه الشاق بنسب أكثر من زملائه يساوي 55 %، والبقية عن طريق مقارنة أرقامه في بداياته وخلال الوقت الحالي.

المهارة والموهبة والجانب الرباني، كلها عوامل تحتاج إلى تطوير مستمر على طول الخط، وإذا تأخرت خطوة أو تكاسلت فإنك لن تصل أبداً إلى القمة فما بالك بالحفاظ عليها!؟

في موسم 2007-2008 كمثال، سدد ليونيل 114 تسديدة في كل البطولات التي شارك فيها، بينما في الموسم الماضي بالليغا فقط سدد عدد كرات وصل إلى 131، أي أنه عدًل بعض الشيء من طريقة لعبه حتى يناسب القواعد الجديدة. وحتى تمريراته الحاسمة لم تعد مثل السابق، فمع بداياته كان المعدل يصل إلى 10 أمتار فقط للتمرير بينه وبين زميل آخر، لكنه اقترب من الضعف ليصل إلى 17 متر، ويدل هذا التباين إلى انقلاب محوري في مفاهيم اللاعب نفسه، بعودته خطوات للخلف ومساندته للارتكاز في البناء من الخلف والخروج بالكرة تحت الضغط، لذلك أضاف عامل الكرات الطولية إلى قاموسه حتى يوفر مخزونه البدني لدقائق الحسم.

سمعت قصص عديدة عن مواهب صغيرة ضلت طريق النجومية بسبب الغرور أو الشخصية أو الكسل، لست في وضع ضرورة إقناع الآخرين بأنهم كانوا مثل ميسي أو في مستوى مقارب، لكن المحصلة واحدة في النهاية، فالمهارة والموهبة والجانب الرباني، كلها عوامل تحتاج إلى تطوير مستمر على طول الخط، وإذا تأخرت خطوة أو تكاسلت فإنك لن تصل أبداً إلى القمة فما بالك بالحفاظ عليها!؟

ليس بالضرورة أن نخترع نظرية جديدة للوصول إلى نتيجة ما، فقط من الممكن القول بأنني أحب ميسي لأنني أحبه، بينما غيري يحب كريستيانو لأنه يحبه، دون الحاجة إلى إلصاق بعض القصص الخيالية عمداً وعن دون بواقعنا الذي نعيشه، فسوبرمان ليس ميسي، بل نقلل منه عندما نقارنه به!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.