شعار قسم مدونات

المحظوظون في النهايات الحزينة.. خفر سواحل ليبيا

blogs - مهاجرون في عرض البحر على السواحل الليبية
الصحفي المحظوظ هو الذي تصادفُه الأخبار والقصص حتى دون أن يفتّش عنها، وكأنّ طاقته وشغفهُ يجذبانِ له القصص، ولأن الصحافة كثيراً ما تقوم على أخبارٍ غير جيّدة، فقد يعني حظّ الصحفيّ هنا متاعب غيره.. صحفي ألماني تمكن من مرافقة السفينة "كفاح" لسلاح البحرية الليبية للاطلاع على مهامها الاستطلاعية الروتينية في مكافحة الهجرة غير النظاميّة لينتج وثائقياً عن ذلك، فكان عملها يومئذٍ مختلفاً.. "كفاح" عمرها يناهز الأربعين عاماً وقبطانها يؤدي عمله وواجبه في البحرية الليبية منذ نحو عقدين من الزمن وكلاهما تعوّل عليه أوروبا في تقليل تدفق المهاجرين نحوها. 
من حظ الصحفي أنه في يوم خروجه مع طاقم السفينة لتغطية عملها حدثت واقعة تَسابق سفينة خفر السواحل الليبية مع سفينة منظمة "سي ووتش" الألمانية وهي منظمة مهتمة بدعم المهاجرين غير النظاميين واللاجئين. التسابق بين السفينتين كاد أن يُحدث كارثة ويتحول من مهمة إنقاذٍ إلى حادث تصادمٍ مروّع في المياه الإقليمية الليبية، والسبب هو تسابق السفينتين لإنقاذ المهاجرين المتكوّمين فوق بعضهم على قارب خشبي متهالك أحشاؤُه مكشوفةٌ للمسافرين على متنه. إنه لمشهد ساخر ومتناقض أن تتسابق السفينتان القادمتان من جنوب المتوسط وشماله على إنقاذ هؤلاء البشر الذين نفضتهُم أوطانهم وفرّوا مجبرين من مرارة الحياة على هذا القارب.

"عبد الباري" الذي يعدّهُ المهاجرون من قضى على أحلامهم؛ كان يؤدي عمله وواجبه بقطع الطريق على أي رحلة هجرة غير نظامية.

من المغرب وبنغلاديش ونيجيريا والسنغال ودول أخرى، كانُوا متساوين على ذاك القارب المتهاوي، ويجري بالقرب منهم تسابقٌ بين سفينتين، انتهز الصحفيُ فرصة حدوثه للاتصال عبر أجهزة التواصل الملاحيّة مع ربّان السفينة الألمانية ونقل وجهة نظرهم أيضاً، خاصةً وأنّ السفينة الألمانية كانت داخل مياه ليبيا..

تمكّن القبطان الليبي من إلقاء القبض على القارب ومنعه من التوجه إلى أوروبا قبيل لحظات من إنقاذ سفينة "سي ووتش" لهم، والتي كان هدفُها استقبال أي قارب مهاجرين غير نظاميين لتُقلّهم إلى وجهتهم؛ أوروبا، لكنّ البحّار الليبي حال دون ذلك. هكذا انتهت آمال هؤلاء الفارين إلى أوروبا عندما تمكنت مناورة القبطان الليبي "عبد الباري" من تجاوز السفينة الألمانية بحركة وصفتها المنظمة بالخطيرة والمتهورة، ما يعكس ُ حرص السفينتين على الوصول أولاً للمهاجرين الذين خرجوا وأكبر كوابيسهم الغرق قبل الوصول، فاكتشفُوا أن الكابوس الحقيقي ليس بالغرق، بل بالعودة حياً معافىً بكل صحتك وطاقتك وشبابك لنقطة البداية خاليَ الوفاض لتُحتجز في مركز إيواء في بلاد غير آمنة.

انتهتْ ببساطة أحلامهم وظلت أعيُنهم معلّقة في الأفق تجاه الشمال، نحو السفينة التي كانت المنقذ بالنسبة لهم لا يفصلها عنهم سوى مسافة قليلة، انتهى الحلم وتبدّدت صورة أوروبا التي كانت تحوم على رؤوسهم طيلة الطريق منذُ مغادرة الساحل، سيعُودون إذاً والعودة هذه المرة مع صورة مختلفة فوق رؤوسهم، صورة قاتمة لمعسكر احتجاز المهاجرين مع كل ما يُنسَجُ حوله من قصص مُفزعة.. لكنّ هذه الحكاية ككل الحكايات الأخرى ليس لها راوٍ واحد ولا نهاية واحدة، فمع كل خاسرٍ وخائب ثمة دوماً منتصر وفائز..

شعرت بوخزٍ لدى رؤية الذعر في أعين المهاجرين بعد معرفتهم بأنهم عائدون إلى وطني الذي صار مرادفاً للجحيم بالنسبة لهم، تابعتُ قصّـتهُم فأيقنتُ أن النهايات الحزينة لامفرّ منها.
شعرت بوخزٍ لدى رؤية الذعر في أعين المهاجرين بعد معرفتهم بأنهم عائدون إلى وطني الذي صار مرادفاً للجحيم بالنسبة لهم، تابعتُ قصّـتهُم فأيقنتُ أن النهايات الحزينة لامفرّ منها.

فالقبطان "عبد الباري" الذي يعدّهُ هؤلاء المهاجرون واللاجئُون من قضى على أحلامهم كان يؤدي عمله وواجبه بقطع الطريق على أي رحلة هجرة غير نظامية تنطلق من وطنه، وهو يتقاضى على هذا العمل ليس مرتباً غير متناسب مع خطورة عمله فحسب، بل أيضاً تهديدات على حياته وحياة أسرته وتهديداً وصل حد اختطاف وإطلاق الرصاص على ابنه على يد عصابات التهريب التي يكافح هو عملها عبر قيادته هذه الفرقاطة المهترئة، وهو إن سمح لهؤلاء بالمرور يكون بذلك متساهلاً مع جريمة الاتجار بهم ولو كانُوا هم قابلين بذلك، ويقول له كثيرون "دعك من هذه المخاطرات، قد توقف قارباً وتمرّ عليك قوارب أخرى وجرائم أخرى في هذا البلد المنهك" عدمُ مقدرته على حل كُل المشكلة، أيُبيح له التساهل مع المهربين؟

أيقنتُ أن النهايات الحزينة لامفرّ منها أحياناً.. أما الصحفي الأوروبي “كلاس ماير هوير" فعاد بنهاية تبدُو لي سعيدة!

وهذه الفرقاطة الوفيّةُ "كفاح" ومن عليها من عناصر خفر سواحل يتعاملون مع المهاجرين بعشوائيّة، هم من تعوّل عليهم بلاد كإيطاليا ليُؤدوا لها دور الحارس الجنوبي لمياهها بعد أن أعجزتها أفواج المهاجرين من الجنوب.. إنه لمشهد معقّد ومتناقض ومتداخل يحتاج دقائق من الملاحظة حتى تفكّ خيوطه المتشعبة وتبحث عن الظالم والمظلوم والخاسر والرابح في كل هذا..

فالقبطان ورجالهُ الذين قضوا على أحلام المهاجرين، لا أحد يعبأ بأحلامهم هم، من يحلمُ منهم ببناء بيت صغير وأسرة دون حرب ، ومن يحلمُ بمستقبل علمي لابنه بعد أن عانى هذا الشاب من الاختطاف والترويع دون ذنب سوى لعقاب والده، ومن يحلمُ فقط بالسفر ورؤية العالم دون أن يفكر في سعر التذكرة وسعر صرف العملة، ومن يتمنّى تعليماً أفضل لأبنائه دون خوف من شبح الفقر والغلاء، ومن يشتاق منهم لأيام هيبةِ ووقار سلاح البحرية الليبية وانتظامه، كل هؤلاء تبتعد أحلامهم كل يوم دون أن تكون هناك سفينة في انتظارهم لتقلّهم للجزء الآخر من حُلمهم.

كل هؤلاء تأقلموا أو ربما لم يفعلوا لكن لا خيار أمامهم سوى الذهاب للعمل وتنفيذ اتفاقيات تعاونٍ يوقعها غيرهم وأُلزموا هم بتنفيذها وقتل أحلام آخرين والتعايش مجبرين مع دموع المهاجرين الذين يتوسّلون السماح لهم الذهابَ ولو سباحةً لسفن المنظمات الأجنبيّة، مضطرّون هم لوقف تحقيق الأهداف غير المشروعة للآخرين لكن دون أن يحققوا بعضاً من أحلامهم المشروعة، رغم وعود الجارة الشمالية بدفع ثمنٍ يحقق لهم أمنياتهم، الجارة الشمالية التي لها سوابق في تأخير ثمن ما توقّعه.. مشهد قاسٍ كهذا يتكرر فوق زرقة مياه المتوسط، مستضعفون وذوو أحلام تائهة يضطرّون لقتل أحلام بعضهم البعض، بينما يجني الأقوياء والأثرياء نتائج ذلك..

تناقضات وثقها عمل الصحفي الألماني المحظوظ من عين المكان، وأنا الصحفيّة الليبية الأقل حظاً التي أغبطُه، كنتُ للمصادفة في نفس ذاك اليوم أعمل من غرفة الأخبار حيث يغطي الصحفيون الأمور دون أن يروها بأمّ أعيُنهم وليس هذا في ليبيا أو منطقتنا فقط، بل هو عُرف غرف الأخبار منذ زمن، قدّمتُ الحلقة حول الموضوع بتصوري وتصوّر زملائي في البرنامج، بعد مرُور أشهر عثرتُ على الوثائقي الذي أعدّه الصحفي الألماني في ذلك اليوم وأشار إليه أحد ضيوف الحلقة بأنه كان بصحبتهم على متن القارب..

شعرتُ ببعض الوخز لدى معرفة قصة القبطان الذي يحرسُ وطني، وتمنيتُ لو أنّ أحداً يلتفتُ لأحلامه، ثم بوخزٍ آخر لدى رؤية الذعر في أعين المهاجرين بعد معرفتهم بأنهم عائدون إلى وطني الذي صار مرادفاً للجحيم بالنسبة لهم، تابعتُ قصّـتهُم فأيقنتُ أن النهايات الحزينة لامفرّ منها أحياناً.. أما الصحفي الأوروبي “كلاس ماير هوير" فعاد بنهاية تبدُو لي سعيدة، عاد بوثائقي نقل جزءاً كبيراً من الصورة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.