شعار قسم مدونات

العزاء في تعليق.. عن انقلاب المعايير في عصر التكنولوجيا

blogs - فيسبوك

(البقاء لله)، (عَظَّم الله أجركم)، (أحسن الله عزاءكم وغفر لميتكم)، (البقية في حياتك)، وغيرها من عبارات العزاء التي نجدها مكتوبة -بتأثر أو بدونه- في تعليقات أي منشور ينعى ميتًا في (فيسبوك)؛ أصبح الناس يستسهلون كتابة هذه العبارات ويعتبرونها بديلاً عن حضور الجنائز، أو حضور العزاء أو اللقاء الشخصي بعد العزاء أو الاتصال الهاتفي -وذلك أضعف الإيمان-، هذه البلوى ليست فقط محل حديثي هنا، وإنما هي من أعظم البلايا التي سأتكلم عنها، والتي ابتُلينا بها بعد دخول هذا العالم الأزرق في أدق تفاصيل حياتنا.
 

منذ تأسيس (فيسبوك) -من (13) عامًا- وهو يتغلغل في حياتنا يومًا تِلْوَ الآخر؛ حتى أدْمَنَّاه، بل أصبح كل شيء تكنولوجي متدخلاً في شئون حياتنا المعنوية والعاطفية التي لا مكانَ للتكنولوجيا فيها من الأساس، وللأسف لم يصبح الانقلاب في بلادنا عسكريًّا فقط، بل أصبح -أيضًا- انقلابًا معنويًّا وعاطفيًّا وفكريًّا وإنسانيًّا وفطريًّا. وإليكم بعضًا من نماذج انقلاب معاييرنا بعد سيطرة الحياة التكنولوجية علينا:

النموذج الأول: وهو عنوان التدوينة؛ منذ شهور قليلة مات جَدُّ أحد أصدقائي، وكان شيخًا كبيرًا قد تجاوز الثمانين عامًا، وكان -طَيَّبَ اللهُ ثراه- رجلاً صالحًا معروفًا بين أهل بلدته، ويَشْهَد له الجميع بالتقوى والصلاح والإصلاح، فلما مات كانت الفجيعة لأهل تلك البلدة -عمومًا- ولصديقي -خصوصًا-؛ فقد تأثَّر تأثُّرًا شديدًا لوفاته، وقد أخبر الجميع بموعد صلاة الجنازة، فلما أخبرتُ أحد أصدقائنا؛ قال لي: إنه لن يذهب للجنازة، ولم يذكر عذرًا مُعتَبَرًا، وقال: سوف أعزيه في تعليقٍ على منشوره في (فيسبوك).

كان كلامه كالصاعقة على قلبي! وظَلَلْتُ أُحَدِّثُ نفسي وأقول: ألِهذا الحد من التبلد وصلنا؟! ألِهذا الحد من التبجح أغرقتْنا الحياةُ التكنولوجية المَقيتة؟! أين نحن من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا؛ فَإنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيْرَاطَينِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ؛ فَإنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ"!

تُرَى، هل سنسمع في الأيام القادمة الناعيَ في الشوارع يقول: "ويقتصر العزاء على تعليقات وماسنجر (فيسبوك)، والملك والدوام لله" بدلاً من: "ويقتصر العزاء على المقابر، والملك والدوام الله"؟!

اختلت معايير النشر لدرجة أنك تجد مَنْ ينشر أدق تفاصيل حياته؛ فتجد مَنْ ينشر وجبة فطوره وغدائه وعشائه! ومَنْ ينشر تنزهه مع أصدقائه وأسرته! ومَنْ ينشر كل أسفاره لكل الأماكن
اختلت معايير النشر لدرجة أنك تجد مَنْ ينشر أدق تفاصيل حياته؛ فتجد مَنْ ينشر وجبة فطوره وغدائه وعشائه! ومَنْ ينشر تنزهه مع أصدقائه وأسرته! ومَنْ ينشر كل أسفاره لكل الأماكن
 
 

النموذج الثاني: في يوم ما؛ كنت في جنازة أحد مَن أعرفهم؛ وبينما الميت يُدفَن، والمشيعون يهيلون عليه التراب؛ إذ بي أجد شابًّا ماسكًا هاتفه ويتصفح (فيسبوك)! فَعَبَسَ وجهي من هذا المشهد المُسْتَفِز! وتعجبتُ من وصولنا إلى هذا الحد من اللامبالاة حتى في أشد المواقف هيبةً على الإطلاق!

ألا يكفينا أننا نرجع من الجنائز منغمسين مرة أخرى في طواحين الحياة الدنيا ونغفل عن الموت والآخرة؟! كيف لا يَأْبَه امْرؤٌ منا للحظة الدفن وهي لحظة مهيبة؛ لأنها لحظة سؤال الميت؟! فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا فَرَغَ من دفن الميت؛ وقف عليه؛ فقال: "استغفروا لأخيكم، وَسَلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسْأل"، يُسأل الميت ونحن نتصفح (فيسبوك)؟!

النموذج الثالث: معايير الـ(Like)؛ أقل ما يمكن قوله هو أن معايير تقييمنا وإعجابنا بالمنشورات قد سُحِقَت وانقلبت رأسًا على عقب، فإذا تتبعتَ معاييرنا التي تدفعنا للضغط على (Like) وأخواتها؛ تكاد لا تجد معيارًا واحدًا سويًّا؛ فتجد مَنْ يجعل معياره للحُكم على غَث المنشورات وسمينها هو عدد الإعجابات التي حصلتْ عليها! وتجد مَنْ يجعل معياره هو الشخص نفسه الذي ينشر، فإذا كان من ذوي المتابعين الكُثْر؛ ضغط على (Like) بدون تردد، بل في بعض الأحيان بدون قراءة المكتوب، وكأن عمر بن الخطاب قد كَتَب!

أذكر أن أحدهم كان لديه ما يتجاوز الربع مليون متابع، وكتب في يوم حَر شديد "الجو انهارده صعب أوي، والواحد بيعرق من أقل مجهود"، فوجدتُّ هذا المنشور قد حاز ما يفوق الألف إعجاب! وتجد مَنْ يكتب كلامًا تافهًا ويحصل على إعجابات كثيرة جدًّا! وفي المقابل تجد مَنْ يكتب كلامًا موزونًا رصينًا فصيحًا؛ لا يحصل على إعجابات كثيرة!

أصبحنا نضغط على (Like) وأخواتها ونحن لا نفكر -ولو فيمتو ثانية- أيستحق هذا الكلام الإعجاب أم لا! والكارثة أن إبداء إعجابنا بالكلام التافه أو غير المفيد؛ يجعل صاحبه يظن أنه يكتب كلامًا ذا بال، وأنه شخص يفيد الناس وأنه ذو مستوى علمي وثقافي رفيع؛ فيستمر -للأسف- في نشر تفاهاته؛ حتى يصبح نجمًا أجوفاً مشهورًا من اللا شيء والتفاهات، ويتصدر القنوات واللقاءات، ويصدِّر للأجيال تفاهاته، ويُتخَذ قدوةً لشبابنا وبناتنا، وهو أخرق لا يساوي شيئًا.

ماذا حدث لنا يا سادة؟! أين عقولنا وأرواحنا التي كنا نتمتع بها قبل هذا الصخب التكنولوجي المخيف؟! زَهدْنا وتكاسَلْنا عن كل شيء نافع جميل! أين معاييرنا المستقيمة؟!

النموذج الرابع: معايير الـ(post)؛ اختلت معايير النشر لدرجة أنك تجد مَنْ ينشر أدق تفاصيل حياته؛ فتجد مَنْ ينشر وجبة فطوره وغدائه وعشائه! ومَنْ ينشر تنزهه مع أصدقائه وأسرته! ومَنْ ينشر كل أسفاره لكل الأماكن بأدق التفاصيل؛ ابتداءً باستعداده للسفر وتجهيز الحقائب، ومرورًا بخروجه من بيته وطريقه في سفره ووصلوه إلى المدينة المقصودة، وانتهاءً إلى رجوعه إلى بيته سالمًا غانمًا بعد رحلة لطيفة سعيدة!

ومَنْ ينشر كل صُوَره الـ (selfie) التي يلتقطها كل عشرة أمتار أو خمسة عشر مترًا! ومَنْ ينشر صُوَره وهو يقرأ أو يكتب أو يمارس الرياضة أو يتأمل في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء! ومَنْ يقوم بتسجيل دخوله في مطعم أو فندق أو قرية سياحية أو مطار! ومَنْ يعرض لنا هاتفه الذكي الجديد الذي يُقدَّر بالآلاف! ومَنْ يخبرنا أنه يحتسي القهوة أو الكابتشينو البرازيلي الفاخر!

ومَنْ يخبرنا أنه في المستشفى منتظرًا مولوده الجديد! ومَنْ ينشر أنه يندب حظه المنكود في هذه الحياة الدنيا، ويشكو لنا همه الذي لا ينقطع؛ فيزيدنا هما فوق همومنا! ومَنْ يخبرنا أنه اشترى سيارة جديدة! ومَنْ يخبرنا أن سيارته الجديدة قد عُطِبَت، ويشكو لنا أنه محسود! ومَنْ يكتب كلامًا غراميًّا أو كلامًا مادحًا المرأة -بالباطل-؛ لكي ينال إعجاب الفتيات ويتابِعْنَه! ومَنْ ينشر مسائل دينية شاذة؛ لكي يجادل ويُماري؛ لكي يبدو للناس أنه عالم نِحْرير! ومَنْ ينشر صورة ليلة الزفاف مع زوجته مكشوفة الشعر متبرجة الجسد!

ولم يبقَ لنا من كل ما سبق سوى أن ينشر المرء صورته وهو يصلي ويتضرع لله! ماذا حدث لنا يا سادة؟! أين عقولنا وأرواحنا التي كنا نتمتع بها قبل هذا الصخب التكنولوجي المخيف؟! زَهدْنا وتكاسَلْنا عن كل شيء نافع جميل! أين معاييرنا المستقيمة؟! لماذا اعوجت وانتكست؟! أفيقوا؛ فنحن حقًّا في خطر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.