شعار قسم مدونات

ثقافة العمى.. التهمة حيازة عقل!

Blogs-bookS
"إنّ جُيوشَ الظلامِ كلّها لا تستطيعُ أنْ تَمنعَ تدفُّقَ النورِ ولو كان من بينِ شُقوقِ نافذةٍ صغيرة"، على امتداد أزقة الشوارع الخالية إلا من شَغوف امتزجت حكايته بأشعة الشمس المنعكسة على بلّورات شبابيكها المتكسّرة فزادته بهاءً ونقاء، وتحت تلك الشجرة تتكوّر على روايتها كوردةِ توليب حمراء خَجِلة ومن أمامها نهر، أوَ تُسقيها عذوبة النهر؟ أم لذّة الحرف!

       

في الغرفة القصيّة من البيت، حول كانون الحطب وعلى إضاءةٍ خافتة تتسلّل من شمعة داخل فنجان قهوة قديم مبتورَ اليد، تتراقصُ ورائحة القرفة المزينة كؤوس السحلب، يتناقش مع أبنائه قضية ما، وخلسةً نراهم في ممرات الكليات، على مقاعد المواصلات، في غرف الانتظار والعيادات، على الأدراج وفي الساحات، وموطئ كل قدم داسته الأجساد واعتلت به الكلمات، وفوق كل ذرة نطقت ب اقرأ وصدحت بأسمى الحكم والشعارات.

     

وأخيراً، تشبّعت دور النشر بما فاضت به قلوب المؤلفين، وغاضت منه أفئدة المتلهفين، تناثرت الأحرف كالفَراش المبثوث، عينات من الأوراق بالنوعيات المختلفة، والأحجام المتفاوتة، يصاحبها أشكال وألوان من تصاميم وزخارف لأغلفة كتب ستنبثق لرحم الحياة أو مدافن الأموات عمّا قريب، أمّا عن قلم التحرير الرابض في نهاية دار النشر المهترئ جدرانها والمراقب بأعتى القوى الحربية الفكرية، فتراكمت فوق مكاتبه الأوراق لمن يستفهم أو يستجدي، ونضبت أقلام التحديد عن أحرف مشكوك فيها، أو التي ولربما لم يَسَعْها معجم المحرّر، ولم تُسعفه لُغته عن لفظها وتجريدها، حتى أمسى الكتابُ فسفوريّ اللون بجمّته، يضيء ليالي من يعبثون به.

       

يخشون من عقلك أن تفهم ولا يخشون جسدك مهما كنت قويا! أولم تعلم يا أغبى الحكماء أنهم ‏لن يتركوك! حتى لو اعتزلت في بيتك وأغلقت عليك بابك، طالما ضوء الحق ينفذ من شباك بيتك فأنت تهديد يجب أن يزول

قُضِي الأمر، واستوت الطبعة الأولى على جوديّ شطآن القُرّاء المتسكّعين، اللاهثين وراء قَضَماتٍ لأحرفٍ مقتَبسة من وحي قلم لصاحب لا يُجيد تأليف حرفين لبعضيهما من مستنقعات الأحرف والقصص الدنيئة، والكتبُ الفسفوريّة، أمست أضواءً لأولئك المتهالكين، ورماداً يكتحل به السلطويّون، وجمرة تكوي أفئدة المؤلفين، وجوهرة منعتها وحوش البحر عن أيدي العطشى الولعين. فخلت الأماكن من قُرّائها، وتكدست الكتب على الأرفف واعتلاها الغبار، ممرات الكليات رُمّلت من أفذاذها، ويُتّمت المقاعد من روّادها، الشمس غرُبت وبهتت تموّجات البلّور، النهر جفت مياهه، والوردة ذبلت وارتمت على أطرافه، وتلك الغرفة القصيّة خمدَت أصواتها، وزُهقت أرواحها والقضيّة، وفي بطن حوتِ دار النشر مُزّقت منشورات، ورُفضت روايات، ووُئدت كتب.

       

وهناك.. وفي البقعة المباركة من أرض تحت الأرض وراء الشمس، حيث لا مبدأ إلا الظلم، ولا قضية إلا العقل، ولا نزيل إلا عاقل، ولا مُدان إلا عاشق قلم، ولا موقوف إلا قارئ، ولا حبيسة إلا الأحرف والكلمات.. وعلى جدران الزنزانة وممرات النَّظَارات، طُرّزت الأحرف ونُقشت الكلمات، إن كنت صاحب قلم.. فأنت مُدان، إن كنت ذا فكر.. فأنت معادٍ، إن كنت مدافعاً لقضية.. فأنت مخرّب، إن كنت متعلّماً.. فأنت ملاحق، إن كنت قارئاً.. فأنت مشكوك في أمرك، إن كنت متحدثاً.. فأنت تُلعثِم قراراتِهم، إن كنت عالماً.. فأنت تهدم أوكارَهم، إن كنت مثقفاً.. فأنت تُدمّر ثقافاتهم العمياء المسروقة، وإن كنت صاحبَ عقل.. فأنت مُتّهم والتهمة، حيازة عقل! واختفت بعدها الأحرف ودُثرت الكلمات ويكأن ظفره الذي استعان على الكتابة به قُضم ويكأن يده بترت ويكأنه كلّه مات!

        

ويحك ألم تجهل بعد! ويل لك ألم تدرك خطورة ما احتوته كرة رأسك بعد! تبا لمكتبات حَوتك! وسحقا لكتب قرأتها فظلمَتك! والموت لجلساء سوءٍ أتلفوا عليك عقلك وميّعوك عن الطريق! ما ذنب ساعات ضيّعتها فيما أضاعك! وما ذنب مبالغ دفعتها في ثمن ما دفع بك إلى الهاوية! ما فائدة صرير قلم أرداك فأصبحت لا تسمع إلا أنكر الأصوات! وتلك الورقات التي كتبت عليها، ليتك تركتَها جذع شجرة يستظلّ حمار الحكومة فيها ويأكل ورقها، أو يستميل الحاكم لموقدته ليلاً فيُطعمها ورقا ليُشعلها فيستدفئ بها.

      

أولم تعلم يا أجهل العُقّال أنهم يخشون من عقلك أن تفهم ولا يخشون جسدك مهما كنت قويا! أولم تعلم يا أغبى الحكماء أنهم " ‏لن يتركوك! حتى لو اعتزلت في بيتك وأغلقت عليك بابك، طالما ضوء الحق ينفذ من شباك بيتك فأنت تهديد يجب أن يزول! " -سيد قطب، إلى أن تُنكص القوانين إلى أن تَعقِل ويجهلون أو تَفهم ويتغابون إلى أن تُقاد وتُحبس وهم الحاكمون، أو تقودُ وتَحبِس وهم المحكومون إلى أن يحقّ الحق ويبطُل الباطل، إلى أن يسود العقل ويُدفن الجهل، أراك في جلسة المحكمة الثانية! فالتهمة حيازة عقل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.