شعار قسم مدونات

مسلمو الروهينغا.. الصورة الحاضرة والمثوى الأخير

blogs الروهينجا

 (1)

"قفي ساعةً يفديكِ قَوْلي وقائِلُهْ …  ولا تَخْذِلي مَنْ باتَ والدهرُ خاذِلُهْ "*

من بين كل الصور المتدفقة بكثافة نهر الدماء الجاري، ورغم كل المحاولات للهرب من التورط في أسر إحداها، فلا يتوقف الفِكر مع العجز ولا ينتهي الخيال عند حدودها بل يتعداها إلى مئات التفاصيل الصانعة لمشهدها الأخير، من بين هذا وذاك تقع عيني على تلك الصورة المسوّرة بالقهر والدفء في آنٍ واحد!

 

ملامح آسيوية سمراء، وجه قد انتحب من كثرة البكاء والدمع المسترسل بالألم وقلة الحيلة، بينما رجاء العالم كله فى يديه ممتداً به نحو السماء، دعاء بالنجاة المستحيلة له ولأطفال ونسوة يشاركنه القارب الصغير نفسه، قد ضنّت عليهم الأرض بمأوى فاستقلا عَرض البحر بحثاً عن بلدٍ يعترف بآدميتهم، بل لـنقل يعترف بحقهم في الوجود أساساً!

 

تقول التقارير الدولية أن "المذابح" التى يمارسها الجيش البورمى بمساندة الميليشات البوذية المسلحة تعدّ الأسوء فى دوامة العنف التي يتعرض لها مسلمو الروهينغا

أعاود النظر للصورة مرّة بعد الأخرى، أدقق فى وجوه الأطفال وقد تكدسوا حول بعضهم يحتمون من المجهول بأحضان أمهاتهم، أفكر في تلك السيدة وهي تحمل رضيعها لا تعلم له أو لها مصيراً، كيف بقلبها الآن، لربما ينفطر من الجزع والخوف على صغيرها المحموم. أغلق الصورة وأتشاغل بالحياة المُلهية بطبيعتها، وكما كل مرّة، وكما كل مأساة.. نحاول أن نتناسى!

 

(2)

"عزَائي مِنَ الظُّلاَّمِ إنْ مِتُّ قَبْلَهُمْ … عُمُومُ المنايا مَا لها مَنْ تُجَامِلُهْ "

تقول الأخبار أن ما يقارب ثلاثمائة ألف من مسلمي الروهينغا قد فروا من ميانمار نحو بنغلاديش وتايلاند خلال الأسبوعين الماضيين فقط، تضيف التقارير الدولية أن "المذابح" التي يمارسها الجيش البورمى بمساندة الميليشات البوذية المسلحة تعدّ الأسوأ في دوامة العنف التي يتعرض لها مسلمو الروهينغا.

 

تبدو الأرقام دوماً قابلة للتمرير حتى تقف أمام الصورة، وهذا ما حدث معي تحديداً، هؤلاء المحتمون بأمواج البحر من جحيم القتل والعنف والحرق تمتد أصولهم لمنطقتنا العربية، هاجروا منها للتجارة ثم استوطنوها لمئات السنين، أفكر الآن أن ما يحمي أبنائي من مصير تلك الأجساد الصغيرة الملقيّة على أرض القارب المُنهك، ما يحميني ويحميهم – حتى حين – هو الجغرافيا، الجغرافيا وفقط!

 

(3)

"أَرَى الموْتَ لا يَرْضَى سِوانا فَرِيْسَةً …  كَأَنَّا لَعَمْرِي أَهْلُهُ وَقَبَائِلُهْ"

إن كل قيمة عُليا نبنيها في أبنائنا، هي بصورة أخرى حِماية لوجودنا وحياتهم، فإن لم تبلغ غايتها بعالم عادل، فعلى أقل تقدير ستموت مقاوماً تُهييء الأرض لمن بعدك

هناك أسباب كثيرة للموت، الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تحتفظ بحقها فى فرض أسبابها دون سؤال، وفى السنوات الأخيرة اختبرنا أسبابه جميعها، القتل بالمجّان والقتل لقضية، القتل بالرصاص والقتل بالإهمال، القتل عن سبق قصدٍ  والقتل بالصدفة؛ ومن كل أسباب الموت وأكثرها سوءاً – فيما أظن – هو القتل على الهوية والوجود، أنت لم ترتكب ذنباً، لم تتبن قضيّة، لم تقاوم ولم تستسلم، فقط مارست حقك الإنساني في الاعتقاد وشاءت أقدارك أن تُعاقب بالجغرافيا والتاريخ أيضاً، تعيش في وطنٍ لا يعترف بك، يتنصل من محبتك وانتمائك، لا يرغب بوجودك بل يتنكر لعمرك وأعمار مَن قبلك، هل يوجد أسوأ من أن تُقتل على هويتك وتُحرم في الوقت ذاته من أرضك التي هي بمعنى آخر تاريخك وذاكرتك! هل هناك أسوأ من تِيه الهارب بلا مأوى، تلفظه البلاد من حوله، فلا ملجأ ولا مرسى، لا شيء غير المهانة والدوران في فَلك الإغاثات المحدودة بالمأكل والمشرب.. هذا إنْ نجا من القتل بسلاح التطهير العرقي أو الغرق مطارداً في بحرٍ لا قرار له!

 

إشكالية هذا الموت، القتل بتعبير أصحّ، أنه لا مأمن منه ولا نجاة من قاتله، ربما تحميك الجغرافيا، لكنها حماية مؤقتة، مرهونة بحسابات ليس منها حق وجودك المُطلق على الأرض التى سَكنتها وغرست في مِلحها عمرك، ببساطة، حقك في الحياة والاعتقاد لا أكثر. مثل هذا القتل يؤكد لك في كل مرة تغفل عنها أنه بغير قوة تحميك، ستموت بسلاح الأقوى، لذا أؤمن الآن أكثر من أي وقتٍ مضى أنّ دفاعنا عن حقنا بالحرية والعدالة والحياة الكريمة، أن كل قيمة عُليا نبنيها في أبنائنا، هي بصورة أخرى حِماية لوجودنا وحياتهم، فإن لم تبلغ غايتها بعالم عادل، فعلى أقل تقدير ستموت مقاوماً تُهيء الأرض لمن بعدك. فلينضج الغضب على مَهلٍ، ولتبلغ الثارات أفقها!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:
* شعر تميم البرغوثي "قفى ساعة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.