شعار قسم مدونات

هل جربت أثر الشغف؟

blogs التأمل

كان على وشك السقوط، ضعفت قواه من كثرة الصراع، إلى أن تورمت قدما قلبه وهو يحاول النجاة من الهبوط من على شفا حفرة آلامه، فقد كل طاقته التي أعانته طوال هذه المدة، وهوى إلى أسفل القاع، وقبل أن يرتطم بالحجر الذي جعل روحه تنزف جرحا بليغا، غاب إيمانه واختفى شق النور الصغير الذي كان أمله الوحيد!

جلس وسط حفرة آلامه وماضيه الباكي، صرخ عاليا وبكى كثيرا إلى أن خارت جميع قواه، بدأ بمداواة جروحه التي أصابته أثناء سقوطه، لكن شيئا غريبا كان مخبّأ بين ثنايا تلك الحكايات الحزينة والذكريات المعطوبة، شيئا جعل قلبه ينتفض، وأعاد لروحه جزءا بسيطا من عنفوانها، تحسس مكان قلبه وبدأ شغفه بمعاتبته على ضعفه وفقدانه لنور إصراره، ابتعد عن زاوية ذكرياته وتقرّب من ذاك النور الذي قاده لحبل شغفه الذي أنقذه من ضياع كاد يودي بقلبه وكل أحلامه!

الشغف، ذاك الشيء الذي يجعل من البكاء المؤلم، مطرا للقلب القاحل، ومن الأيام الذابلة، جوريّا يعطّر الروح بالصبر، ومن الرياح الهوجاء القاسية، صديقة تُذكرّك بصعوبة الطريق الذي ينتظرك لكي لا تتراخى ولا تستكين، إنه الشغف، الذي يتملك أواصر الإنسان فيزيده إصرارا على طموحه وإن ابتعد عنه كثيرا في أيامه الخالية، إنه الشغف، الطاقة التي سخرها الله لعباده ليروا الألم لذة وهم يسيرون لمبتغاهم، والتعب رفيقا للوصول، إنه الشغف، عناد الروح أمام محاولات إطفائها، وانتصار القلب على الماضي القاسي. 

اليقين أول ما يقود للشغف، كلما امتلأت باليقين الصادق، ازداد وهج شغفك وتلوّنت أيامك، وأن تكون مملوءا باليقين يعني أن تكون متصالحا مع ذاتك، راضيا بقضائك لأنك موقن بعدل خالقك
اليقين أول ما يقود للشغف، كلما امتلأت باليقين الصادق، ازداد وهج شغفك وتلوّنت أيامك، وأن تكون مملوءا باليقين يعني أن تكون متصالحا مع ذاتك، راضيا بقضائك لأنك موقن بعدل خالقك
 

ثم إن الشغف لا يعني الامتلاء بالأحلام والأمنيات والنظر لبعدها من غير الهرولة إليها بالعمل، ولا يعني الآمال الواهمة، ولا القوة المؤقتة، ولا السعي الأعرج، بل إنه السلاح أمام الكسل والفتور الذي يصيب روح الإنسان، وحين يكون ذاك الشغف جزءا من كل خطوة يخطوها، ينخفض صوت أسئلته المتذمرة تدريجيا، ويزداد انشغاله في إيجاد الحلول. 

واليقين أول ما يقود للشغف، كلما امتلأت باليقين الصادق، ازداد وهج شغفك وتلوّنت أيامك، وأن تكون مملوءا باليقين يعني أن تكون متصالحا مع ذاتك، راضيا بقضائك لأنك موقن بعدل خالقك، سليم النفس، معافى من اضطراب الروح وتخبط القلب، فإن فقدت نور اليقين وتخليّت عنه عند أول سقوط، كثر تذمرك الذي يقتل شغفك، وزاد تعثرّك، وأصبح داخلك مظلما مخيفا.

اعلم أيها المختبئ في أزقة خوفك، أنه لا أحد من البشر له حق إيقاف سيرك وسلب قوتك ببضع كلمات بائسة، ولا سقوط يستطيع الحد من شغفك إن كنت على قيد الشعور

وأما الحب فهو عماد الشغف، والحب بمعناه الشعور بقيمة الأشياء وبالأخص تلك الأشياء البسيطة التي لا يلتفت إليها العقل بحجة أنها مجرد جنون لا فائدة منها، وإن نظرنا مليا فإننا نجد العلاقات تذبل إن لم نشعر بجماليتها ولم نعش تفاصيلها، وفي العبادات أيضا، تغيب النتيجة المرجوّة من العبادة، إن لم يعش القلب بكامل وجدانه ولم يستحضر الإنسان ما استطاع من شعوره في صلاته وحتى في كل عبادة صغيرة أو كبيرة، لتصبح وكأنها تقليد اعتاد الإنسان عليه وحِمل يزيحه عن كاهليه.

وكذلك الشغف، يغيب ويتخلى عن صاحبه إن فقد قيمة شعوره بالأشياء، وبالأخص إن فقد حبه للعمل، وأصبح يجتهد ويعمل فقط ليزيح عن كاهليه حمله الثقيل لأنه مجبر على ذلك ظنا منه أن ذلك يجعل اسمه لامعا ومضيئا، ونسي حُبَّ الشيء الذي يوصله لذلك اللمعان! خاصة أن فقدان الإنسان لحب لذة التعب أثناء عمله وحب العمل بحد ذاته يجعله أقل اتقانا وجودة، والذي بدوره يؤدي إلى نتائج هزيلة ومريضة.

اعلم أيها المختبئ في أزقة خوفك، أنه لا أحد من البشر له حق إيقاف سيرك وسلب قوتك ببضع كلمات بائسة، ولا سقوط يستطيع الحد من شغفك إن كنت على قيد الشعور. واعلم أن الإيمان الذي يزيد اليقين هو الذي يضيء شعلة الشغف حتى وإن أحاط السديم بك، وخير الإيمان هو الإيمان بعدل الله مصداقا لقوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.