شعار قسم مدونات

لعنة كنعان!

blogs لعنة كنعان

"وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقَالَ: "مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ". وَقَالَ: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِي مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ"." ــ سفر التكوين (9: 20- 27).

 

هذه بكل بساطة، هي نواة القصّة التي يرويها سفر التكوين عن نوح العاري، فلنتأمل قليلاً، ولنتذكر ونحن نمعن الفكر في هذه القصة نقاطاً هامة توراتية وتاريخية قد تساعدنا على فهم ما وراء القصة.

 

في قصة نوح وعورته يحسن أن يتوقف العقل عند نقاط كاشفة في النص التوراتي، يقول كاتب النص ــ بغير داع في الواقع إلا الإعداد للعنة التي كتبت الحكاية من أجلها ــ "وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ" ــ سفر التكوين (9: 18). ثم قوله: "وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ" ــ سفر التكوين (9: 18). فالسياق المنطقي للحكاية أن نوحاً عندما خرج من الفلك كان أباً لثلاثة أبناء، وأن كل الأرض تشعبت من أولئك الأبناء الثلاثة، فما الداعي لذكر "كنعان" تخصيصاً في ذلك السياق؟!

 

لا نري في وقوع نظر "حام" على عورة أبيه، وتحدثه في ذلك إلى أخوته ما يستتبع تلك النتائج الخطيرة التي ترتبت على وشاية أخويه به إذ صب أبوه الموحى إليه لعنته على "كنعان بن حام"

وإن كان المقصود ذكر أبناء "سام" و"حام" و"يافث"، فلم لم تذكر أسماؤهم التي أوردها "العهد القديم" بعد ذلك تفصيلاً في إصحاح بأكمله في سفر التكوين هو الإصحاح العاشر؟!

 

يقول جاري جرينبرج، في كتابه "101 أسطورة توراتية": وحيث أن تلك الأحداث جرت بعد نزول "نوح" وعائلته من الفلك بفترة وجيزة لا يملك المرء إلا أن يسأل من أين جاء ذلك الـ"كنعان" وكيف تسنى له بلوغ السن الكافي للقيام بمثل هذا العمل المشين، ذلك إلا إذا كان قد ولد على ظهر السفينة؟

 

وتحاشياً لوقوع أي سوء تفاهم كالظن بأن الكاتب أخطأ واستبدل "حام" بـ"كنعان" الإبن الأصغر، يجب أن ننوه إلى أن كل المرات التي ذكر فيها أبناء "نوح" الثلاثة في "الكتاب المقدس" كان ترتيب "حام" هو الثاني كل مرة وذلك كنوع من الصيغ النصية المراد منها التأكيد على أن "حام" هو الابن الأوسط من أبناء "نوح" وليس الأصغر.

 

من كان والد "كنعان": "نوح" أم "حام"؟ لابد أن نوعاً من الخلط كان يحيط بذلك الأمر، لأنه كما يظهر كان على الكاتب التوراتي أن يؤكد كل مرة على أن "حام" هو الأب.           

 

علاوة على ذلك هناك العديد من التساؤلات تثار في الأذهان: ما ذنب "كنعان" أن يدفع ثمن خطيئة "حام" ــ إن صح نسب الأول إلى الثاني؟! وكيف يتحمل ذنب أبيه ــ إن كان لأبيه ذنب؟ كيف يلام "حام" وهو لم يفعل شيئاً يستحق اللوم عليه؟! أنا لا نري في وقوع نظر "حام" على عورة أبيه، وتحدثه في ذلك إلى أخوته ما يستتبع تلك النتائج الخطيرة التي ترتبت على وشاية أخويه به إذ صب أبوه الموحى إليه لعنته على "كنعان بن حام"، ولسنا ندري لم تخطى نوح بلعنته المستجابة "حاماً" إلى "كنعان" أبنه. فهل كان نوح لا يزال تحت تأثير الخمر عندما نطق بلعنته؟ ومع ذلك فقد كرسها يهوه (رب إسرائيل).   

 

يقول ألبيرتو دانزول، في كتابه "اليهودية والغيرية غير اليهود في منظار اليهودية": يُشير مُوريس دوري، أنه في التلمود صَرَّح أحد الأسياد أن "حام" قد لاط نوحاً، وآخر أنه خصاه. وبالنسبة لماهارال براغ، في القرن السادس عشر، إن نوحاً قد ارتكب الأمرين.

 

ولكننا إذا افترضنا أن حاماً بالفعل أبصر عوره أبيه، وأن أبيه أراد أن ينزل اللعنة بنسله، فلماذا حصر نسله في "كنعان"، ومن المتعارف عليه توراتياً أن "كنعان" لم يكن إلا واحداً من أبناء "حام" الأربعة، "وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ" ـ سفر التكوين (10: 6). وبذلك، لا يبقى هناك ما يبرر إنزال اللعنة بـ"كنعان" وحده من بين أبناء "حام"  الأربعة بسبب ما اقترفه أبوهم، وهو والد الأربعة منهم.

 undefined

يقول شفيق مقار، في كتابه "قراءة سياسية للتوراة": فمن تلك القصة الخرافية استمد الكهنة "لعنة" انصبت على "كنعان" وهي "لعنة" ظالمة أخلاقياً وإلهياً بغير شك، لكنها لازمة كهنوتياً/ سياسياً/ إقليمياً بغير شك أيضاً. فبدلاً من أن يلعن نوح ابنه "حاماً" مباشرة لأنه رأى عورة أبيه وهو في غيبوبة السكر، فلم يسترها كما فعل "سام" الحصيف و "يافث" المطيع ــ انحطت لعنته رأساً بكل ثقلها الرهيب على رأس الابن الأصغر "كنعان" المسكين دون سائر إخواته "كوش" و "مصرايم" و "فوط" لماذا؟ أنت تعرف لأن "تُخُومُ الْكَنْعَانِيِّ مِنْ صَيْدُونَ، حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ جَرَارَ إِلَى غَزَّةَ، وَحِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ وَأَدْمَةَ وَصَبُويِيمَ إِلَى لاَشَعَ" ــ سفر التكوين (10: 6). وكانت تخوماً "تفيض باللبن والعسل"، وبها مدن عظيمة وبيوت عامرة وآبار وزيتون وكروم، ولهذا السبب العلمي للغاية ناقض محررو "العهد القديم" أنفسهم وعصوا الرب إلههم الذي قال لهم بصريح العبارة أنه "لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عَنِ الأَوْلاَدِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَوْلاَدُ عَنِ الآبَاءِ. كُلُّ إِنْسَانٍ بِخَطِيَّتِهِ يُقْتَلُ. " ــ سفر التثنية (24: 16).

 

يقول ألبيرتو دانزول: هناك تعليق في "زُهار" أو كتاب "الروائع" يقول عن أولاد نوح: الأول فاضل أو مليء بالفضيلة، والثاني مليء بالرّذائل، والثالث بين الاثنين. ومفهوم أن "العبرانيين" هُم ذرية الفاضل "سام"، و "الكنعانيين" هم ذرية الرذيل "حام" وبما أن الفضيلة يجب أن تدحر الرذيلة فيجب على "العبرانيين" أن يُبيدوا  "الكنعانيين"، وهكذا يأمر الله.

 

إن الشعوب تمتلك طبيعة ثابتة، هذه الطبيعة تتحكم بالعلاقات بين الأمم وتوجه أفعالهم ومصيرهم. وبما أن "إسرائيل" قد وضعت هذه الطبيعة وحددت ثباتها ورسختها بالبرهان السلالي، فسوف تستطيع أن تقوم بالإبادة للشعوب "الكنعانية"، بكل ضمير مرتاح

ولتبرير إبادة ذرية "حام" الكنعانية، توجهت التوراة إلى توظيف الانتقال الوراثي لبعض التصرفات. ويشرح كتاب "الحكمة" أن طبيعة "الكنعانيين" كانت عاطلة، وأن خبثهم كان غريزياً، وأن إمكانياتهم لن تتغير أبداً [حكمة 12. 10]. ويبدو أن مثلب حام انتقل تماماً كمت هو من جيل إلى جيل. وإلى فسق حام تُجيب العادات الكنعانية التي يصفها الفصل 18 من الأحبار: زاني (مثل حام، يكشفون عُرى آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وبناتهم…) فَسق، أضاحي الأطفال، شذوذ جنسي، حب الحيوانات.

 

فالانتقال الوراثي لبعض الاستعدادات يصيب كل الشعوب. وقداسة "إسرائيل" هي استمرار لفضيلة "سام"..!

 

ويبدو هنا أن الشعوب تمتلك طبيعة ثابتة، هذه الطبيعة تتحكم بالعلاقات بين الأمم وتوجه أفعالهم ومصيرهم. وبما أن "إسرائيل" قد وضعت هذه الطبيعة وحددت ثباتها ورسختها بالبرهان السلالي، فهي سوف تستطيع أن تقوم بالإبادة الكاملة للشعوب "الكنعانية" على طريق استئصال الشر، بكل ضمير مرتاح. 

 

إننا من خلال دراستنا لهذه القصة، تصادفنا ثلاث ظواهر أكد كتابها باستمرار على تثبيتها، وهذه الظواهر هي التالية:

* محاولة كتبة التوراة إظهار العرق اليهودي "السامي" من خلال خطيئة نوح العاري. 

* حقد كتبة التوراة على الشعوب الأخرى.

* محاولة تبرير المذابح والإبادة التي حدثت في أرض "كنعان" [أي كانت جغرافيتها].

 

فالحقيقة التي أكاد أجزم بها أن بطل هذه القصة كان رجلاً ضعيف الإرادة، فلما انفضح أمره بدخول أصغر أبنائه إليه ليجده عرياناً وفاقد الوعي من فرط السكر، شعر بنوع من الحرج حاول إخفاءه بلعنة "كنعان".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.