شعار قسم مدونات

التمرد والحرية في الفن الأفرو أمريكي

blogs توباك شاكور

منذ بداية نكبتهم ورحيلهم من أفريقيا عبر قوارب الموت والسفن التجارية العابرة للقارات إلى أدغال أمريكا وهم مقيدون بالسلاسل والازدراء، كان السود يحاربون ضد الغبن والدونية وعدم المساواة والتنميط المؤسساتي، واستنكروا القمع والعبودية وبحثوا عن الحرية والعدالة الاجتماعية ــ رغم ضيق الفرص واستحالة المطالب ــ بطرق متعددة كالتمرد والثورات، والفن والأدب اللذين جسدا ذكريات الجراح والألم، فكانت مطالبهم رغم بساطتها بعيدة المنال بسبب العنصريين الذين كانوا يرون أن السود نصف إنسان ونصف حيوان، لا يملكون أدوات التفكير والقدرات التي تؤهلهم إلى الإنسانية الكاملة!

وفي ظل الرق والسادية كان السود يعانون من الأعمال الشاقة وألم السوط والإذلال، ولم يستطيعوا أن يطالبوا بحقوقهم ويعبروا عن مأساتهم بالفن والموسيقى بعد حظر الطبول وأدوات الفن من المزارع والتجمعات الأفريقية، أو أن يكتبوا تاريخهم وتراثهم، لأن الكتابة في نظر البيض أسمى درجات النضج والرقي الإنساني، ولم يدرك العبيد هذه المرحلة السامية بعد!، حيث يصور الأدب الأمريكي الإمبريالي الإنسان الأسود شهوانيا غارقا في الجنس والمخدرات والمخالفات القانونية والعيش في الأحياء المتخلفة والضواحي الكرتونية الأكثر بؤسا، ويلصقون به كل التهم والمساوئ كتدني المستوى التعليمي والتسرب المدرسي وارتفاع الأمية والبطالة.

ومن أجل التصدي لهذه الهرطقة، بدأت حركات السود الثقافية تدشن آراءها الفكرية ونظرتها حول الحياة والحرية والذات، وانتجت القصص والمسارح والروايات والأغاني، ومع تحسن الوضع وارتفاع الأصوات التي تطالب بإلغاء الرق، انخرط السود شيئا فشئيا في القالب الثقافي الأمريكي فحاربوا عبر كتاباتهم وسردياتهم وفنهم الموسيقي الأفكار العنصرية، وقد حمل لواء هذا الفترة الحاسمة في تاريخ الزنوج بأمريكا كتاب وأدباء وموسيقيون مهرة كرسوا جهدهم لطي صفحة العبودية وفتح عصر المواطنة والمساواة، ومن هؤلاء فليس ويتلي، وغوستافوس فاسا، وأولودة اكويانو، وهاري بيرلاي، وغيرهم الذين قادوا نضال إعادة قراءة التاريخ وتصحيح الأفكار وتلميع المسيرة.

في ملاجئ التشريد بدأ شاكور كتابة القصائد فركز على الأحياء الفقيرة والعنصرية والمخدرات في الشوارع، فبات وهو في ريعان شبابة صوت المجتمع الزنجي
في ملاجئ التشريد بدأ شاكور كتابة القصائد فركز على الأحياء الفقيرة والعنصرية والمخدرات في الشوارع، فبات وهو في ريعان شبابة صوت المجتمع الزنجي
 

إن المعاناة والتضييق اللذين لقيتهما الكاتبة الشابة فيلس ويتلي وما رافق كتاباتها من ألوان العذاب والسخرية يذكرنا بطغيان الطغمة الحاكمة التي كانت تسخر من الزنوج، سواء كانوا في أمريكا التي ألهبت ظهرهم بالسياط وأرعبتهم بالمشانق، أو في أفريقيا التي تعاني من التدفق الإمبريالي من أجل نهب الثروة وشراء الرقيق وإرسالهم إلى أوروبا وأمريكا ليبدأوا فصلا آخر من فصول العبودية والتسلط، ومازالت موانئ الشحن في أفريقيا شاهدة على آثار هذه المأساة الإنسانية.

وطيلة القرن التاسع عشر الميلادي، كان السود يواصلون محاولاتهم الخجولة، التي كانت في معظمها فردية الطابع وبعيدة عن التأثير، من أجل رد الاعتبار واختراق جدار العزلة الثقافية والانعتاق من الآثار السلبية لسنوات من العبودية والانطوائية إلى رحاب الحرية، وتأثير الشارع الأمريكي وثقافته الاستعمارية وتحويلها إلى ثقافة مشتركة تتسم بالشمولية والعدل والوطنية، وهكذا استمر النضال ومحاربة العنصرية والتمييز إلى أن بزغت نهضة هارلم وما صاحبها من حركات ثقافية وفكرية واسعة النطاق وعميقة الأثر.

 

وكان جيمس ويلدون وآلان لوك وزملاؤهما من الكتاب يتصدرون التيارات المنفتحة على الأفكار والنقاشات والخيال الجامح نحو نفي الدونية وإثبات الذات واحترام الهوية الثقافية، كما كان المطربون اليوبيل (jubilee singers) وسكوت جوبلين وغيرهم ممن أسسوا مدرسة أفروأمريكية في الغناء والألحان لها روادها وملامحها ولغتها الغنائية يواصلون بحثهم عن الذات، وكذا قفزاتهم الثقافية المبهرة عبر ألحانهم وإيقاعاتهم الكلاسيكية الممزوجة بالعراقة الأفريقية التي أبهرت المجتمع الأمريكي المختلف عنهم والمعبأ بالنظرة السلبية إلى السود عرقا وثقافة.
 

وبعد الحرب العالمية الثانية وجد المجتمع الأفرو أمريكي منصات يستطيع من خلالها التعبير عن ثقافته ومشاعرة ومشاكله وماضيه المليء بالعبودية والاضطهاد النفسي والجسدي وتطلعاته نحو الحرية والمستقبل، فأنشأوا الفرق الموسيقية والأندية الثقافية، وبرعوا في الروايات والكتابة الأدبية، وفي هذه الفترة تَشكلت معالم الفن الأسود الأمريكي المستقل، الذي يحمل بصمات أفريقية عميقة سواء كان الجاز أو الهيب هوب أو الفلكور والسينما، ونال أول أفرو أمريكي جائزة أوسكار، وتصدرت لمساتهم الثقافية والفنية المشهد الثقافي المحلي.

فنّه كان ثوريا يغرد خارج السرب الإمبريالي وألقى حجرا من ألحان موسيقاه الشجية في مياه الثقافة الأمريكية التمييزية العفنة، وفي أغانية كان ينشد دولة تحترم التعددية والأقليات وشعبا يقوده القانون

ومع مرور الوقت، اختفت العبودية رسميا رغم ترسبها في الإرث الثقافي والسلوكي الأمريكي، وتحسن وضع السود السياسي والاجتماعي والاقتصادي عبر ثائرين قادوا الجموع وتمردوا على الوضع المأزوم وبحثوا عن ذواتهم في وسط الظلام، وتركوا بصماتهم في أروقة الفن والسياسة والسينما، ومن هؤلاء الفتى الراحل توباك شاكور الذي وقف ضد التمييز وناصر الضعفاء بألحانه وحبال صوته الأسطوري.

ولد توباك شاكور أو "النبي الأسود" في منطقة هارلم التاريخية بنيويورك عام 1971م وأطلقت عليه والدته توباك تيمنا بقائد الثورة البيروفية خوسيه غابرييل توباك شاكور أماورو الذي حارب الظلم والاضطهاد الإسباني حتى أصبح أيقونة النضال ضد الإمبريالية في أمريكا اللاتينية.

كعادة آلاف الزنوج في أمريكا، ولد شاكور مجهول النسب وتركه والده وهو في بطن أمه التي كانت عضوا في حزب "الفهد الأسود" الذي كان يناضل من أجل العدالة والمساواة، وفي ملاجئ التشريد بدأ كتابة القصائد فركز على الأحياء الفقيرة والعنصرية والمخدرات في الشوارع، فبات وهو في ريعان شبابة صوت المجتمع الزنجي وساكني "غيتوهات" وعشوائيات الضواحي التي تسودها الاستفهامات من مثل متى سينتهي العنف والمطاردات؟ ليجيب شاكور عبر أغانيه: عندما يكف البيض عن قتل الزنوج في الشوارع!

منذ صغره تبرم من الوضع المظلم وشغلت باله الطبقية المستحكمة في الحياة الأمريكية! الأسود يجب أن يكون مقيدا بالفقر والجهل والحرمان، وكي يعيش البيض في رغد العيش يجب أن تعمل أمي (النساء الزنجيات) ساعات طويلة وبأجر زهيد! كيف يدير البيض الإمبراطوريات التجارية ويبيتون في الأبراج العاجية ويركبون الطائرات الفخمة؟ في حين لا يجد السود كوخا يقيهم الحرّ والبرد وهم يقبعون في الزوايا والهوامش والأزقات، يرافقهم الحيف في العمل والحقوق والحياة؟ والتفسير الوحيد لهذه الطبقية في نظر شاكور هو العنصرية التي كرست التفوق التعليمي والمعيشي.

كان توباك يؤمن بأن الحاضر يصنع المستقبل، وأن النضال ضد المآسي المتراكمة عبر الدهور حتما سيشكل الملمح الرئيس للحياة المقبلة، وأن الإنسان يجب أن يعيش من أجل هدف يقدم له التضحيات، وأن يتحرر من الاهتمامات الآنية والتستر وراء الحجج الواهية، وأن ترنوا النفوس إلى الأهداف السامية والأمل بعيدا عن نار العبودية والكبت، وغنّى "بعيدا عن النار سيأتي المطر" مطر العدالة والحرية والحياة السعيدة.

توباك شاكور ووالدته (مواقع التواصل)
توباك شاكور ووالدته (مواقع التواصل)

شكسبير الأسود ولجزالة لغته ورصانة ألفاظه وجمالية أغانية أنصف نساء السود ومدحهن كثيرا في وسط الثقافة الأمريكية التي تقدح في كرامتهن (داعرة، ساقطة، سافلة)، فكان يقدس النساء السود عبر أمه. وفي أغنيته الأيقونية Dear Mam ندرك مدى عمق محبته للملكة السوداء التي كافحت من أجل تربيته وتغذيته بالمثل العليا والأخلاق الحميدة رغم الفقر واليتم والمجتمع الطبقي، ولئن غنى لأمه الحنون فإن الأغنية باتت أكثر أغاني الفنان شعبية وتعبيرا عن صوت الأمهات الضائع في دوامة العنصرية والفقر.

 كان فن توباك ثوريا يغرد خارج السرب الإمبريالي، وألقى حجرا من موسيقاه الشجية في مياه الثقافة الأمريكية التمييزية العفنة، وفي أغانية كان ينشد دولة تحترم التعددية والأقليات، وشعبا يقوده القانون والتفاهم والمصير المشترك، فأراد البعض إسكات هذا الصوت المتمرد الذي يشجع البسطاء على الانعتاق والتحرر من العبودية والخوف، في حين يهين المتنفذين أصحاب الثروة والسلطة ـ وكان هذا مطلب جهات عدة جمعتهم الكراهية والخوف من المارد الأسمرـ فاتهموه بأشياء كثيرة، وفي عام 1995 حكم عليه بالسجن، وفي داخل الزنزانة واصل نضاله الأدبي والفني، بل زاد تألقه عندما أصبحت أغنيته في السجن من أكثر الأغاني مبيعا في تلك الحقبة لكونه صاحب رسالة آمن بها وناضل من أجلها.

ذاع صيت توباك وتناقلت أخباره كبريات الصحف والمجلات العالمية والمحطات التلفزيونية، فأصبح  الفنان المفضل والرمز الحي للناقمين على الظلم، وقائدا ملهما لجيله المتمرد الممتد بامتداد الفساد والضيم من أفريقيا إلى اللاتين ومن سهوب آسيا إلى أزقات منهاتن، كما أثر في الأجيال اللاحقة التي اقتدت به وأحبته عبر فنه ولغته الغنائية وتفرده في اللحن وإلهاب العواطف، فدخل موسوعة جينس العالمية للأرقام القياسية بألبوماته وشهرته.

وفي منتصف شهر ديسيمبر عام 1996م وبعد سجال فني وكفاح أدبي جعل منه أيقونة عالمية وظاهرة فنية رحل الفنان الذي ألهب تصفيقه أكف محبيه في شتى البقاع، وأسدل الستار على حياة المغني الأشهر في الهيب هوب، والفنان الذي قاوم الظلم والاضطهاد بكلماته وثوريته إثر طلقات نارية من مسلح قيل إنه مجهول غيب أيقونة الفن إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.