شعار قسم مدونات

القيم الأخلاقية.. والباحث الناجح

blogs قارئ في مكتبة
لست هنا في معرض الحديث عن مواصفات وخصائص الباحث الناجح، بل في معرض ذكر أهم المرتكزات المعيارية للنجاح في ميدان البحث العلمي الأكاديمي وفق تصور قيمي. إن النجاح في البحث العلمي ليس كالنجاح في باقي مجالات الحياة، لأنه لا يعتمد فقط على امتلاك مهارات القيام بتلك المهمة بالأساس، بل يتعدى إلى أكثر من ذلك؛ من قبيل طبيعة الموقف وحقيقة الاتجاه نحو تلك المسؤولية، كما أنه رهين بمدى استمرار المردودية البحثية؛ فلا يوجد خلاف على أن البحث العلمي هو أحد الأعمال التي تستلزم السعي الدائم نحو تطوير الذات والتطلع اللامنقطع نحو آفاق أوسع.

ومما لا شك فيه أن ممارسة البحث العلمي ليست بالأمر البسيط، كما يعتقد البعض؛ والحق أن هذا التصور خاطئ وبعيد تماما عن الحقيقة، فليس كل من أسندت إليه مهمة البحث العلمي هو أهل لها ويستحق صفة الباحث حقا، وليس كل من يحمل بطاقة باحث أو طالب في الدراسات العليا يستطيع أن يكون باحثا ناجحا فعلا.
 

يقوم الجهد البحثي عند الباحث الناجح على العطاء لا الأخذ، والعطاء قيمة إنسانية نبيلة تجعل الباحث يبدع أكثر، لأن إنتاجه البحثي يصبح غير مرهون بشيء يأخذه مقابل ذلك
يقوم الجهد البحثي عند الباحث الناجح على العطاء لا الأخذ، والعطاء قيمة إنسانية نبيلة تجعل الباحث يبدع أكثر، لأن إنتاجه البحثي يصبح غير مرهون بشيء يأخذه مقابل ذلك
 

وللأسف الشديد فقد أصبح الانتماء لميدان البحث العلمي سهلا جدا أمام كل من هب ودب؛ يكفيك أن تكون حاصلا على شهادة الماجستير ثم تسلك أحدى الطريقين المنحرفتين: إما أن تتملق بإتقان وتداهن جيدا من يملكون زمام الأمور في مراكز ومختبرات البحث العلمي، أو أن ترشيهم؛ مما جعل البحث العلمي عبارة عن متاجرة وصفقات سرية، وبالتأكيد لهذا الأمر تأثير خطير على الأمن التعليمي في ظل عدم القدرة على حماية مكتسبات من اجتهد وسعى بجد وإخلاص نحو بلوغ غمار البحث العلمي الأكاديمي بشرف، ومن دون هذا تبقى صفة الباحث مجرد شعار زائف يُوهِمُ كثيرٌ من الناس أنفسَهُم باستحقاقه.

ومن أهم مرتكزات المعيارية للنجاح في البحث العلمي والتي تحمل طابعا قيميا ما يلي:

تحمل القيم الأخلاقية مكانة كبيرة عند الباحث الناجح؛ لاعتبارها رمزا للاستقامة ودلالة على الصلاح ومثالا للالتزام. ويعتمد الباحث الناجح على موجهات قوية تتمثل في ضميره وقيمه وثوابته الأخلاقية والدينية التي ترفع جودة أدائه البحثي المتقن. بالإضافة إلى ذلك، يستطيع الباحث الناجح أن يلعب دورا فعالا في التوسط الجيد بين المادة العلمية المتوفرة والموثوقة وما يبحث فيه من جهة، وبينه وبين محيطه الخارجي المليء بالتحديات والتناقضات القيمية من جهة أخرى.

يقوم الجهد البحثي عند الباحث الناجح على العطاء لا الأخذ، والعطاء قيمة إنسانية نبيلة تجعل الباحث يبدع أكثر، لأن إنتاجه البحثي يصبح غير مرهون بشيء يأخذه مقابل ذلك. هذا ويلتزم الباحث الناجح بقيمة الأمانة في أعماله البحثية، وهذا ما يجعله أكثر انضباطا للأمانة العلمية ولأخلاقيات البحث العلمي. ويكون لبحوث الباحث الناجح مقصد نبيل بعيد عن الحصول على أغراض نفعية شخصية؛ فلا يكون همه هو الحصول على الشهادة العلمية أو الوظيفة أو الترقية أو المال أو الشهرة، لأن أسمى غايات العمل البحثي إحداث تطوير مجتمعي وخدمة البشرية جمعاء.

يرسم الباحث الناجح الطموحات النبيلة ولا يقزم البحث العلمي في الحصول على شهادة جامعية تؤهله للحصول على منصب عمل عال
يرسم الباحث الناجح الطموحات النبيلة ولا يقزم البحث العلمي في الحصول على شهادة جامعية تؤهله للحصول على منصب عمل عال
 

أما الباحث الناجح، فيتخذ البحث والتنقيب والاكتشاف والإبداع والترقي في مدارج العلم والمعرفة وظيفة يومية وممارسة حياتية، كما أنه ينقل نتائج ما توصل إليه إلى غيره عن طريق الكتابة والتأليف أو الصناعة والاختراع، لتعم الفائدة بين سائر أفراد النوع البشري؛ أي أن باله لا يرتاح حتى يرى أبحاثه واقعا ملموسا يستفيد منها الجميع. ويُقدم الباحث الناجح إضافة جديدة إلى رصيد المعرفة ويساهم في تقدم العلم ودفعه نحو الأمام، لأنه يقوم ببحوث رائدة وجادة ونافعة. 

ثم إن الباحث الناجح يتقبل فكر الآخر المخالف ويحسن تدبيره بشكل جيد، بحيث إنه لا يتعصب لرأيه وأفكاره؛ أي أن أفُقه الفكري واسع جدا. ويتبنى الباحث الناجح قيمة التواضع عمليا، ولا يجد في نفسه حرجا في نقد الآخرين له؛ أي أنه لا يتعالى على النقد، وهذا ما يجعل باب تقديم الإفادة ومنح المعرفة عنده مفتوحا لأيٍّ كان، فيصير حريصا على تلقف الحكمة من أية جهة جاءت، ولا يمكن أن يفلح في ميدان البحث العلمي إلا من كان متواضعا لينا بعيدا كل البعد عن الغرور والغطرسة الزائفة والاستعلاء الكاذب.

يتطلع الباحث الناجح باستمرار إلى زيادة المعرفة؛ فهو في تعطش دائم إلى الاكتشاف والإبداع لتحدث الإضافة المتميزة والإسهام الحقيقي في تطوير البحث العلمي بصفة خاصة ونهوض المجتمع الإنساني بصفة عامة؛ أي أنه يضع بصمة خاصة في مجاله البحثي. وقد يواكب الباحث الناجح التطور اللامتناهي من حوله على المستويين المحلي والعالمي، ويظهر ذلك جليا فيما يبحث فيه؛ بمعنى أن مشاريعه البحثية تتوافق مع الإمكانات المتوفرة ومع متطلبات الواقع المعيش.
 

البحث العلمي الحقيقي لا يقبل بطبيعته أن يكون وسيلة لتحقيق المآرب المادية أو الحصول على المجد الشخصي الزائف
البحث العلمي الحقيقي لا يقبل بطبيعته أن يكون وسيلة لتحقيق المآرب المادية أو الحصول على المجد الشخصي الزائف
 

بالإضافة إلى ذلك، يرسم الباحث الناجح الطموحات النبيلة ولا يقزم البحث العلمي في الحصول على شهادة جامعية تؤهله للحصول على منصب عمل عال. ويمارس الباحث الناجح البحث العلمي بصفة دائمة ولا يعتبره مجرد محطة معينة أو مرحلة محددة يمر بها، بل يصبح البحث بالنسبة له هاجسا دائما وعملا يوميا مثله مثل باقي أعمال الحياة اليومية كالطعام والشراب. فالذي يمارس البحث العلمي لغاية معينة أو لغرض محدد تنتهي صلته به لمجرد ما أن تتحقق غايته ومصلحته الشخصية.

وبعد ذكر أهم المرتكزات المعيارية ذات البعد القيمي التي ينبغي الاعتماد عليها إذا ما أردنا أن نصنف باحثا ضمن زمرة الباحثين الناجحين، ورغم كل ما قيل يبقى البحث العلمي من أصعب الأعمال التي تتطلب استفراغ الوسع وبذل الجهد والتسلح بالطاقة الكافية والصبر الجميل لمواجهة المتاعب والعراقيل المتوقعة على طول قارعة البحث. وفي الأخير ينبغي التأكيد أنه لا يمكن للباحث أن ينتمي إلى دائرة البحث العلمي بمعناه الصحيح إذا خرج عن الجوهر القيمي للبحث العلمي المتمثل في الصدق والمصداقية والإخلاص للمعرفة، ونُشدان الحقيقة الخالصة والحرص على خدمة العلم بتقديم الإضافة إلى رصيد المعرفة الإنسانية ونفع المجتمع البشري وهذه أهم مقومات النجاح في هذا الميدان.

كما أن البحث العلمي الحقيقي لا يقبل بطبيعته أن يكون وسيلة لتحقيق المآرب المادية أو الحصول على المجد الشخصي الزائف. ثم إن أصل النجاح يكمن في مدى توفر الرغبة الذاتية المبنية على أساس قيمي قويم في دخول غمار البحث العلمي والخوض في هذا الميدان وعدم الخروج منه لمجرد تحقق المصلحة الذاتية، وهذا هو وقود محرك النجاح الفعال والمتواصل، فالبحث العلمي هو سبيل من سبل الفلاح، ولن يحظى به إلا من قدم ضريبته ودفع ثمنه وكابد مشقاته واقتحم عقباته لبلوغه بعد سلوك الطريق الصحيح المؤدي إليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.